فى الفيلم اللطيف «غبى منه فيه»، يلعب هانى رمزى دور «سلطان»؛ وهو شاب غبى وجاهل، لا يتمتع بأى تأهيل مناسب، لكنه يحاول أن يقنع اللص الأريب «ضبش»، الذى يلعب دوره حسن حسنى، بأن يوظفه كمعاون له فى عمليات السرقة التى يقوم بها. لكن اللص الأريب «ضبش»، الذى تفحصه فأدرك غباءه وقلة حيلته، يرفض رفضاً قاطعاً. يعود «سلطان» مستعطفاً وملحاً: «أن اخضعنى للاختبار، وستجدنى نافعاً». فيُعرض اللص الخبير عنه، محاولاً صرفه والتخلص منه ونصحه ببديل أنفع فى آن واحد: «اشتغل مهندس.. أو افتح لك عيادة».
المعنى واضح، والمغزى مفهوم، فاللصوصية مهنة صعبة، تحتاج إلى استعداد وتأهيل، وفى الوقت نفسه، فإن أحوال مجتمعنا المهترئ باتت من التردى إلى حد أن تقبل «عاطلين» فى وظائف تتسم بالأهمية الشديدة والخطورة، رغم عدم امتلاكهم المهارات والتأهيل المناسب، ومن دون سبب موضوعى واضح سوى رغبة هؤلاء فى الحصول على عمل، أو هذا النوع من العمل بالذات.
وإذا كان المهتمون بسسيولوجيا النكتة يتحدثون عن «مراجعة دورية من قبل المجتمع لتراثه وإنتاجه من النكت، بما يضمن التوافق بين هذه النكت والاعتبارات والمفارقات الاجتماعية السائدة»، فلاشك أن هذه النكتة بالذات تحتاج مراجعة عاجلة، لتكون النصيحة للشاب العاطل من كل موهبة أو تأهيل، والباحث عن أى فرصة للعمل، مهما كانت بعيدة عن اهتماماته واستعداده، على النحو التالى: «اشتغل مذيع».
من بين أسوأ التداعيات التى تسببها أزمة المرور المزمنة اضطرارنا أحياناً للاستماع إلى بعض «المذيعين الجدد» عبر موجات الإذاعة.
إنهم شبان وشابات يجيدون المصطلحات والتعبيرات الرائجة بين الأجيال الأحدث، ويتمتع بعضهم بقدر كبير من السطحية والابتذال.
يتصور بعض هؤلاء أنهم باتوا «فلاسفة» أو «حكماء» يعرفون «كل شىء عن أى شىء، ويفرقون بين الحق والباطل، ويمتلكون الرؤية الثاقبة والحقيقة المطلقة».
يتحدث هؤلاء المذيعون الجدد، عبر برامجهم الحوارية فى عدد من القنوات الإذاعية الخاصة، عن تفاصيل حياتهم، أو ما تناولوه من طعام، أو ذكرياتهم أيام الدراسة، كما يذكرون أسماء أصدقائهم وأفراد عائلاتهم على الهواء، أو يتبادلون النكات و«الإفيهات» مع بعضهم البعض.. وأخيراً يعطوننا دروساً فى الوطنية والانتماء.
باختصار شديد يرتكب هؤلاء جميع الأخطاء التى حددتها أكاديميات الإعلام فى العالم أجمع، وحذرت الدارسين من الوقوع فيها عند العمل كمذيعين، لكنهم فى الوقت ذاته يحتفظون بوظائفهم، ويمعنون فى الخطل، ويتلقون التهانى من جمهورهم على «أدائهم الرائع»، وتنهال على برامجهم الإعلانات.
فى إحدى المرات أعلنت إحدى الإذاعات عن مسابقة بين جمهورها للعمل كمذيعين لفترة محددة عبر الهاتف، فانهالت المشاركات على البرنامج، وكان أغلب المشاركين من الهواة غير المتعلمين، لكنهم حين راحوا يجربون القيام بدور المذيع لم يكن هناك أى اختلاف بين أدائهم وأداء «المذيع النجم» الذى يمتحنهم على الهواء.
فى مطلع هذا العام، أعلنت إحدى الفضائيات عن رغبتها فى تلقى طلبات من الراغبين فى العمل فى وظيفة مذيع لاختبارهم تمهيداً لتوظيف عدد منهم، ووفق ما قاله لى أحد القائمين على هذه المسابقة، فقد أرسل أكثر من 13 ألف شخص طلبات للفوز بالوظيفة.
لا أستغرب أن يكون هناك مئات الآلاف من المصريين الذين يريدون أن يعملوا فى وظيفة «مذيع»، ولا أعتقد أن أغلبهم سيجد صعوبة فى الوفاء بمتطلبات تلك المهنة الصعبة والخطيرة فى آن واحد، إذا كانت تلك المتطلبات لا تخرج عن «امتلاك القدرة على الكلام»، كما هو حاصل الآن.
مازال لدينا عدد من المذيعين والمذيعات المهنيين والأكفاء، لكن الحال البائسة التى أصبحنا عليها، وامتلاء الأثير بأنماط الأداء الفاسدة والمنفلتة جعلت البعض يعتقد أن وظيفة المذيع لا تحتاج سوى معرفة وثيقة بأسس البلطجة، وقواعد السباب، أو كلام الشوارع، وأحاديث المقاهى الرخيصة.
نقلًا عن “المصري اليوم”
اقرأ ايضا
ياسر عبد العزيز: بخصوص 28 نوفمبر