تمهيد ..
لا توجد مناسبة للكلام عن احمد زكي فالكلام عنه – او عن اى مبدع عظيم – لا يجب أن يحتاج الى مناسبات فليس ضروريًا ان تحل ذكرى وفاته او ميلاده لنذكره لبضعة أيام ثم ننساه بعدها .. احمد زكي يستحق أن نذكره دائمًا ونتكلم عنه طوال الوقت ، أما نحن فيجب ان نعيد تأمل حالنا الغريب ، فعندما نُفاجأ بوفاة فنان اومبدع ما فدائمًا ما نلوم أنفسنا بأننا لم نعرف قيمته إلا بعد وفاته ونكتشف أننا لم نعطِه قدره ونصارحه بمدى حبنا وتقديرنا له وبمكانته الكبيرة فى قلوبنا وهو حىٌ يُرزق ، والأغرب من ذلك أننا لا نتعلم من هذا الدرس ونكرر نفس الخطأ مرةً أخرى فيصبح تذكُرنا لهذا المبدع بعد وفاته مرتبطًا فقط بذكرى وفاته السنوية ، أى يومًا واحدًا فى العام ! لهذه الأسباب قررت أن أتكلم عن احمد زكي بدون أى مناسبة سوى أنه .. احمد زكي ..
( 1 )
احمد زكي وبتاع اللمون ..
الأحد 27 مارس 2005 .. فى مساء ذلك اليوم جاءنى الخبر من صديق .. احمد زكي مات .. وبرغم أنه لم يكن أمرًا مفاجئًا تمامًا بسبب معاناته لأكثر من عام مع المرض فكان وقع الخبر ثقيلاً على النفس ومسببًا لكثير من الحزن والألم والحسرة على رحيل فنان يكاد يكون الوحيد الذى يستحق ان نقول عليه جملتنا الشهيرة ( لن يتكرر ) فهو بالفعل كفنان وانسان وحالة ابداعية وتركيبة نفسية خاصة لن يتكرر ، كان عمرى وقتها 20 سنة بالظبط ويمكن صغر سنى ده يكون هو عذرى الوحيد للأفكار الغريبة اللى جاتلى وقتها فانا فضلت أسال نفسى ، ليه ؟ اشمعنا احمد زكي يعنى اللى يموت ؟ ما فيه ناس كتير مالهاش لزمة وعايشة ومبتعملش حاجة اهيه وبيعيشوا كمان لحد ما بيكبروا ويعجّزوا ؟ فاشمعنا هو يموت صغير كدة ؟ ليه نتحرم منه وهو فى ذروة توهجه وقمة إبداعه ؟ وبالفعل ، فاحمد زكي الموهوب بالفطرة أثقلته السنوات بطبيعة الحال وازداد نضجًا وتألقًا وإبداعًا وآخر أربعة أفلام فى تاريخه – بعيدًا عن فيلم حليم – تشهد بذلك فقد قدم آداءً مخيفًا ومذهلًا فى ( اضحك الصورة تطلع حلوة ) و ( أرض الخوف ) و ( أيام السادات ) و ( معالى الوزير ) فكان من الطبيعى والمنتظَر أنه لو قدر الله له أن يعيش أن يقدم إبداعات أخرى لا تقل عن هذا المستوى ، بل تزيد .. وبينما كانت هذه الأفكار تدور فى رأسى ومسيطرةً تمامًا على عقلى مررت بجوار ” بتاع اللمون ” الذى كان يجلس دائمًا فى أول شارعنا ليبيع ليمونه وهو رجل عجوز جدًا – منظره يوحى بأنه تجاوز السبعين من عمره – كثيرًا ما لفت انتباهى وكنت أستغرب حاله وأشفق عليه لكنى – وللأسف – فى ذلك اليوم أذكر جيدًا أننى وانا أمر بجواره نظرت اليه طويلًا ثم سألت نفسى ، ألَم يكن من الأفضل للبشرية أن يموت هذا الرجل ليرتاح مما هو فيه ويعيش احمد زكي ليمتعنا بإبداعه ؟!
( 2 )
الضربة الجوية ..
ماذا لو لم يمت احمد زكي ؟ لو لم يٌصاب بسرطان الرئة من الأساس وأكمل حياته بشكل عادى ؟ لنتخيل أنه لم يمرض او يمت ، وأن الله أراد له أن يعيش أكثر وكتب له عمرًا أطول مما عاشه بالفعل ( مجرد تخيل لا أكثر ) .. كان احمد زكي بجوار موهبته العظيمة فى التمثيل لديه موهبة أخرى كبيرة فى تقليد الآخرين .. بدايته فى التمثيل أصلاً كانت بتقليد الفنان الكبير محمود المليجى فى مسرحية ( هاللو شلبى ) ، احمد زكي مزج بين موهبته فى التمثيل وموهبة التقليد عندما قدم أعمالًا مثل مسلسل ( الأيام ) وفيلمى ( ناصر 56 ) و ( أيام السادات ) كلنا انبهرنا بتقليده المتقَن لهذه الشخصيات مثلما انبهرنا بآدائه التمثيلى لها ، كان لديه ولعًا بشكل خاص بتقديم هذه الشخصيات التاريخية وتجسيدها فى أعمال فنية ويُقال أنه كان يحلم بتقديم فيلم عن الزعيم احمد عرابى وآخرين .. وفى هذا الصدد قال صديقه المُقرب ومدير أعماله محمد وطني فى إحدى حواراته الصحفية أن احمد زكي قال له فى مرة مفسرًا اهتمامه بتقديم هذا النوع من الأعمال الفنية ( الزعماء رموز بدأت تتنِسي وانا ممكن بفيلم مدته ساعتين اخلدها العمر كله والأجيال الجاية تفتكرها ) هكذا كان يفكر المبدع العظيم ، ولكن السؤال الآن ، هل كان حقًا يفكر فى تقديم فيلم عن الرئيس السابق حسنى مبارك وبالتحديد عن الضربة الجوية فى حرب اكتوبر 73 ؟ هل كان الأمر جديًا أم مجرد فكرة عابرة قالها كمجاملة للرئيس السابق لا أكثر كما يؤكد البعض ؟
( 3 )
وأكّد ممدوح الليثى رئيس جهاز السينما أن الاستعدادت للفيلم تجرى رغم مرض احمد زكي وأنه فور تعافيه سوف يبدأ العمل فى الفيلم مشيرًا إلى أن قصة الفيلم يعدَّها حاليًا السيناريست عاطف بشاى وسوف يخرجه محمد فاضل ..
وكان مدحت زكي رئيس قطاع الانتاج المصرى قد أكد أن مشروع فيلم ( الضربة الجوية ) سيوضع على قائمة أولويات قطاع الإنتاج فور صدور الموافقة عليه وقال أنه تم طرح الموضوع على صفوت الشريف وزير الإعلام لعرضه على الرئيس مبارك لبدء التنفيذ وهو ما تم بالفعل حيث أعطى الرئيس مبارك موافقته لاحمد زكي عقب عرض فيلم السادات ، وسبق لاحمد زكي أن قال أنه يعد لتمثيل دور الرئيس المصرى الحالى فى ثالث فيلم تاريخى يدور حول حياة زعماء مصر والأحداث التاريخية الهامة فى عصورهم بعد فيلمى ( ناصر 56 ) و ( السادات ) بتناول الضربة الجوية التى قادها سلاح الجو المصرى بقيادة الرئيس مبارك وتردد أنه قد تم قطع شوط فى طريق إعداد سيناريو الفيلم ..
من جريدة الخليج الإماراتية
بتاريخ 17 فبراير 2005
( 4 )
ثورة 25 يناير ..
لم يكن احمد زكي مناضلاً سياسيًا او معارضًا صريحًا لنظام مبارك ، ولكنه فى نفس الوقت لم يكن ايضًا منافقًا له او مستفيدًا منه او ساعيًا لكسب وده فى يوم من الأيام .. هو كان فى حاله تمامًا ومشغولاً طوال الوقت بعمله الفنى فقط وكان احترامه لنفسه يمنعه من الأمرين سواءً ادعاء بطولة ليست فيه او تملُق النظام رغبةً فى أن يصبح ( بوقًا ) للسلطة ، واذا كان قدَّم فيلم ( ناصر 56 ) فقد قدَّم قبله فيلم ( البرىء ) الذى يفضح فكرة المعتقلات السياسية فى عهد عبد الناصر واذا كان قدَّم ( أيام السادات ) فقد قدَّم قبله ( زوجة رجل مهم ) الذى كشف استبداد الأجهزة الأمنية وتسلُطها فى زمن السادات ، حتى مبارك قدَّم فى عهده أفلامًا مثل ( الهروب ) و ( ضد الحكومة ) و ( معالى الوزير ) تكشف ببساطة رأيه فى نظامه وفساد حكمه بالطريقة التى يجيدها وهى الفن ، وحتى عندما فكر أن يجسد شحصية مبارك ، اختار أن يُركز فقط على دوره فى الضربة الجوية فى حرب اكتوبر كقائد للقوات الجوية قبل أن يصبح رئيسًا لمصر – فلا يوجد فى 30 عام من حكم مبارك ما يصلح حتى لفيلم كارتون – عكس ما حدث مع السادات وناصر والأخير ايضًا حتى يتفادى الكثير من مناطقه الشائكة مثل نكسة يونيو او خلافه الشهير بعدها مع المشير عامر جعل الفيلم يدور حول جزئية تأميمه لقناة السويس فقط وبنفس المنطق لم يكن احمد زكي سيمثل فيلمًا عن مبارك الرئيس يظل طوال أحداثه يقُص أشرطة افتتاح الكبارى الجديدة ويسافر الى الخارج ثم يعود وفقط – هذا كل ما فعله مبارك باختصار – كان سيصبح فيلمًا مملاً بالتأكيد – مثل سنوات حكمه – بعيدًا عن كل هذا فكرة أن يتم تقديم فيلم عن مبارك الرئيس وهو لازال يحكم سيراها الجميع مجاملةً فجة ودعايةً رخيصة وهو أمرًا من المؤكد أنه لم يغب عن بال زكي ، ولذلك كان البديل هو فيلم عن الضربة الجوية ليس إلا .. ربما يكون مبارك هو الذى طلب من احمد زكي فيلمًا عنه بعد مشاهدته لفيلم أيام السادات كما يقول البعض ، وأن زكي شعر بالإحراج فوعد الرئيس بذلك وأنه ظل يُروِج للفكرة فى حواراته مجاملةً للرئيس ولم يكن ينوى تنفيذها على أرض الواقع وربما تورَّط فى الأمر وقرر أن يُنفذ الفيلم بالفعل لأنه لا يملك رفاهية الرفض ، لكنى أميل أكثر الى أن الفكرة قد وجدت هوى فى نفس احمد زكي ، فشخصٌ بتركيبته لن يستطيع أن يقاوم إغواء أن يُكتب فى تاريخه أنه قام بتجسيد وتمثيل أدوار زعماء او رؤساء مصر الثلاثة فى العصر الحديث او ما بعد ثورة يوليو 52 ..
بعيدًا عن هذا الأمر ، فالسؤال الأهم ، لو كان قد قُدر لاحمد زكى ألا يموت فى عام 2005 هل كان سيأتى يوم 25 يناير 2011 وتقوم ثورة على مبارك بينما احمد زكي قد قام بتجسيد شخصيته قبلها بعام او عامين فى فيلم سينمائى ؟! ماذا كان سيحدث وقتها ؟ مع العلم أن فيلم ( ناصر 56 ) كان فى عام 95 وفيلم ( أيام السادات ) كان فى عام 2001 ولو افترضنا وجود نفس الفارق الزمنى او أكثر قليلاً فإن فيلم مبارك كان سيخرج للنور فى عام 2008 او 2009 على الأكثر ، اىُّ مصيرٍ هذا الذى كان ينتظر احمد زكي لو لم يمت فى عام 2005 .. ؟
( 5 )
لكنه كان يعيش على أعصابه ..
لقد تعرَّض احمد زكي خلال مشواره الفني للعديد من الحروب التي كان يمكن لبعضها أن يعبر بسلام لو تجاهله ولم يُلقِ له بالًا , لكنه كان يعيش على أعصابه طيلة الوقت ولذلك نجح حتى مشعلو الحروب الصغيرة فى هدفهم , واستنزفوا كثيرًا من طاقته وأضاعوا وقتًا ثمينًا من عمره فى معارك كان فن التمثيل أبرز الخاسرين فيها ..
من سلسلة مقالات عن احمد زكي بعنوان
الموهوبون فى الأرض لبلال فضل
( 6 )
النجم الأسمر فى القائمة السوداء .. !
فلنعُد بالزمن قليلاً ، نحن الآن فى أيام ثورة 25 يناير العظيمة ، فلنستعد نفس أحداث ال 18 يوم للثورة وما تلاها من أحداث مع إضافة تفصيلة صغيرة ، وهى وجود فيلم عن الرئيس المغضوب عليه حسنى مبارك من بطولة احمد زكي .. من المؤكد أن احمد زكي أبدع بشكل ما فى تقديم الشخصية كعادته ومن المؤكد أنه أصبح يرمز بشكل او بآخر للرئيس الذى تهتف مصر كلها ضده الآن فى غضب وحتمًا كان جزءًا كبيرًا من هذا الغضب سيتوجه بشكل طبيعى وتلقائى ودون أن نقصد الى احمد زكي ، وبالتأكيد كنا سنرى صورًا له وهو بشخصية مبارك معلقةً بداخل ميدان التحرير بجوار صور مبارك الأصلية مكتوبًا عليها عبارات ساخرة وغاضبة أقلها ( ارحل ) .. كنا سنجد فيديوهات تسخر من مبارك باستخدام مشاهد من ذلك الفيلم ثم يتطور الأمر فيما بعد فى مرحلة وضع قوائم سوداء للمشاهير من كارهى الثورة بوضع اسم احمد زكي على رأس هذه القوائم ، التى اثبتت الأيام أنها كانت فكرةً فاشلة ، ولكنها وللحق كانت مجرد رد فعل – وإن كان انفعاليًا – على تجاوزات بعض المشاهير من إعلاميين وفنانين فى حق ثوار التحرير واتهامهم بالعمالة للخارج والى آخر قائمة الاتهامات التى نحفظها جميعًا ، فلا زالت تتردد حتى الآن .. لم نكن سنعطى احمد زكي حتى فرصةً ليعلن مثلاً عن دعمه للثورة ، فكيف كنا سنقبل بحماس الثورة وقتها أن يخرج اى فنان ليعلن عن تأييده لثورة قامت على رئيس قام هو بتجسيد شخصيته فى فيلم يحكى عن بطولاته , لو فعل ذلك لاتهمناه بالنفاق ولو صمت سنتهمه بأنه ( فلول ) وده المتوقع منه ولو تعاطف مع مبارك كنا سنهاجمه بكل عنف ، اى نفس المصير كان ينتظره فى كل الأحوال ، ببساطة كنا فى خِضم هذا الحدث التاريخى والاستثنائى العظيم سنقتل احمد زكي دون أن نشعر ، ولا أبالغ لو قلت أنه كان سيموت بالفعل ولن تتحمل روحه المرهَقة من الأساس هذا الموقف العصيب ، فاحمد زكي الذى كان يعيش دائمًا على أعصابه وتستنزفه حتى المعارك الصغيرة والذى حاول الانتحار مرةً فى بداية مشواره الفنى بعد أن قرر منتج فيلم ( الكرنك ) استبداله بنور الشريف قائلاً ( مين الواد الاسود ده عشان يبوس سعاد حسنى ) ، احمد زكي اللى كان بيشعر بالقهر وبيمشى يكلم نفسه فى الشارع لما ناقد فنى يكتب عنه وحش عكس ما كان بيتوقع وينتظر ويرى أنه يستحق ، كان أقل إحساس بالظلم بيموته ولذلك لم يكن سيصمد كثيرًا أمام هذه الريح العاتية وكان سيذبُل وينطفىء سريعًا .. الآن فقط أفهم الحكمة من موته ، فأن يموت وهو يرى حب الملايين له وبكاءهم عليه خيرًا من أن يعيش لليوم الذى يرى فيه لعنات وكراهية البعض تصيبه فى مقتل .. أن يموت وهو راغبٌ فى الحياة لأنه يشعر بحب كل من حوله أفضل كثيرًا من أن يعيش مكتئبًا ومنبوذًا ومنتظرًا للموت , الآن أفهم كيف يصبح الموت أحيانًا ( راحةً من كل شر ) وكيف أننا بالفعل لو علمنا الغيب لاخترنا الواقع ، فربما يكون القدر بالفعل قد أنقذ احمد زكي من مصيرٍ مؤلم ونهاية مأساوية لم يكن يستحقها أبدًا فنان بحجم وقيمة وعظمة وصدق الفتى الأسمر الموهوب ..
( 7 )
بتاع اللمون واحمد زكى ..
وددت أن أعتذر لبائع الليمون العجوز ولكنه للأسف لم يعد يأتى ، منذ فترة طويلة لم يعد يجلس على أول شارعنا مثلما اعتاد ، ويبدو أنه رحل أيضًا ، رحل قبل أن أفهم أنه لا يقِل عظمةً وأسطوريةً عن احمد زكي ، فهو مثله تمامًا ظل يتفانى فى عمله لآخر لحظة ، عمله الذى يحبه ولا يجيد غيره فأخلص له بكل جوارحه .. كان احمد زكي يُقدم فنه من أجل هؤلاء البسطاء ، بينما كان ( بتاع اللمون ) يقدم لى إحدى دروس العمر دون أن يقصد .. فالحياة مليئة بالأبطال الذين نمُر بجوارهم كل يومٍ دون أن نراهم او نشعر بهم ، أبطال سينما الحياة وكومبارسات الواقع المؤسف .. رحل ( بتاع اللمون ) بعد أن ترك فى روحى بصمةً لا تقل عما تركه احمد زكي ، فليرحمهم الله ويرحم كل من أخلص لهذه الحياة وظل يعمِّر فى الأرض حتى آخر لحظة فى حياته ..