البني آدمين نوعان: واحد يسيطر على النَّحس، وآخر يسيطر عليه النَّحس!
فلا يوجد إنسان على وجه الأرض لم يشعر في لحظة بأنه سيئ الحظ، لكن هناك من يقمع هذا الشعور بالجد والاجتهاد والصبر والمثابرة، وهناك من يتركه يتمدد وينتشر ويتسرب إلى نفسه حتى يشعر أنه المنحوس الأكبر على وجه الكرة الأرضية.
فكل بني آدم فيه “حتة نحس”، وإذا كان مصريًّا فهو لديه، قَطْعًا، قطعة أكبر من غيره!
فالمواطن المصري هو المادة الخام للنحس، فيكفي أن العالم يخطط لما يمكن أن يفعله بعد 50 سنة، بينما نحن لاندري ما يجري حولنا الآن!
في مصر لاتحتاج إلى سبب لتشعر أنك سيئ الحظ، فكل ما حولك يدعوك لأن تغلي من فورة الغضب، فيكفي أن تقف في طابور عيش، أو طابور بنزين، أو طابور جمعية، أو طابور تذاكر، أو حتى طابور تقديم طلبات الهجرة!
والسؤال: هل نحن شعب منحوس فعلا؟
والجواب: من المؤكد أنه لا يوجد شعب بأكمله منحوس وآخر محظوظ، لكن في الوقت نفسه ليس صدفة أنه كلما تولى السلطة في مصر رجل قوي خلَفَه على العرش رجل ضعيف.
فرغم قوة ابن طولون وفتوحاته وانتصاراته فإنه كان سيئ الحظ، فحين خرج ليقود إحدى المعارك الكبرى للحفاظ على الدولة عاد فوجد أن ابنه قد استولى على السلطة! وبعد أن استرد حكمه غادر الحياة، وجاء إلى العرش خليفة هزيل شغوف بالعطور والنساء يُدعى “خمارويه”.
وما جرى مع ابن طولون تكرر مع القائد صلاح الدين الأيوبي الذي كان يُحسن اختيار سفرائه، لكنه لم يُجِد اختيار وزرائه -فبعضهم كان عدوًّا للآخر، والبعض الآخر اشتهر بالطغيان- ولم يُحسن اختيار مَن يخلفه على العرش فأتى خلفه الملك العزيز بالله الذي أباح الدعارة، وتدخين الحشيش، وتفرغ للنساء، وحاول هدم الهرم الأصغر!
هذا هو حظ مصر مع حكامها، فبعد علي بك الكبير حضر البرديسي. وبعد أن بنى الضابط الألباني محمد علي باشا مصر الحديثة جاء الخديو الضعيف سعيد. وحين قامت ثورة يوليو ضد حكم الأسرة المالكة وانتقلنا إلى حكم الضباط الأحرار، وتوحد الشعب المصري خلْف الزعيم جمال عبد الناصر، وظن الجميع أن مصر صارت واحدة من القوى الكبرى، وأن نهاية إسرائيل قد اقتربت، وقعت النكسة. وحين جاء الرئيس السادات وحقق نصر أكتوبر ذهب بعده إلى تل أبيب. وبعد أن أطاحت ثورة يناير بحسني مبارك ونظامه أتى خلفه واحد من أقرب رجاله إلى قلبه ليحكم مصر لعام ونصف العام بعد الثورة. ثم حين جاءت أول انتخابات حقيقية في تاريخ مصر، فاز بها رجل من أضعف الرجال، وعندما أطاح الشعب به لم يجد أمامه سوى رجل عسكري!
.. كأننا ندور في حلقة مفرغة.
لكن المصري بطبعه متفائل؛ ﻷنه لو لم يكن كذلك لصارت معدلات الانتحار تاريخية، ربما لأن أقصى طموحاته أن يظل حيًّا، فهذه وحدها واحدة من المعجزات، فرغم كل ما يحدث حوله ومعه وفيه فإنه ما زال صامدا وقادرا على الضحك ومُصرًّا على التفاؤل.
والنَّحس لا يفرّق بين كبير وصغير، رئيس وخفير، غني وفقير، عالم وجاهل، بل إن أغلب من يشعرون ويتأثرون بالحظ، والنَّحس، ويذهبون إلى الدجالين والعرافين هممشاهير الفن والسياسة والرياضة، لكن أغرب واقعة حدثت واشتهرت وانتشرت بين الفنانين هي ما جرى في أغنية “من غير ليه”، فهذه الأغنية كتبهاالشاعر مرسي جميل عزيز ليغنيها عبد الحليم حافظ، وبعدها رحل الشاعر الكبير، وهي أيضًا آخر أغنية أجرى عليها حليم بروفات أولية قبل رحيله مباشرة، وحين قرر الموسيقار محمد عبد الوهاب أن يغنيها بنفسه حاول صديقه الكاتب الكبير أحمد رجب أن يقنعه بالابتعاد عن تلك الغنوة، لكنه رفض النصيحة، وأسند توزيعها إلى الفنان أحمد فؤاد حسن فرحل بعدها مباشرة، وغناها عبد الوهاب فكانت أغنيته الأخيرة