القاصى قبل الدانى يعرف أن داود عبد السيد فيلسوف وليس مجرد مخرجاً عادياً ، فجميع أفلامه تدل على ذلك .. كل شئ له معنى فلسفى ، وطرح فكرى فى غاية العمق ، حتى إختيار أسماء الشخصيات .. من ينسى ” آدم ــ يحيى أبو دبورة ــ أحمد زكى ” فى أرض الخوف ، ورحلة بحثه عن جدوى ما يفعله من آثام ، مذ أخذ الأمر الإلهى ــ البوليسى ” بالهبوط على أرض الخوف ، ذلك الإنسان الذى سيظل طوال فترة بحثه يتساءل : يا ترى اللى بعمله ده صح ولا غلط ؟ . حتى يتيقن بأن ما نزل من أجله ليس كما فهم ، وإنما كان الأمر بهبوطه هو إطلاق العنان له كى يعيش على الأرض بما فيها من حب وكره وبحث وسفك للدماء ، وليس هناك رادع لما يفعل ، حتى خطاباته التى كان يرسلها لأهل السماء لم تصلهم لأنهم أرادوا له العيش كإنسان ناضج يعلم ماهية أفعاله .
يكمل داود عبد السيد المسيرة بفيلم آخر وكأنه الجزء الثانى لــ” أرض الخوف ” وهو فيلم ” رسايل البحر ” ذلك البطل الذى تأتيه رسالة مبهمة ملقاة فى عرض البحر ولا يفهم ما تعنيه ، لكن أحداث الفيلم تخبرك كمتلقى وتخبرالبطل ذاته بأنه بإنقطاع الوحى وإنتهاء وجود رسل يبشرون وينذرون عليك كإنسان ناضج أن تتحمل تبعات أفعالك ، وأن كل منا رسول نفسه ، وعليه أن يعيش بفلسفته الخاصة التى يستلهم عصارتها من تجاربه فى الحياة .
مما سبق ذكره من أفلام وغيرها الكثير فى أفلام داود نستشف أن محور أفلامه تدور حول ــ البحث ــ الذى أرهق ابن آدم ، سواء عن السعادة الزائفة بالغناء أو الحشيش كما فى ” الكيت كات ” ، أو عن الحرية المكبوتة كما فى ” البحث عن سيد مرزوق ” ، أو عن الفرح اللحظى كما فى ” سارق الفرح ” .
أما ونحن الآن فى معرض الحديث عن آخر أفلامه ” قدرات غير عادية ” أود البدء بشئ أظنه فى غاية الأهمية .
ستصدم بثلاثة أشياء فى هذا الفيلم .
أولاً : الإستهلال المتسرع بشكل مربك ، بأن تفاجأ بمشهد فى أحد المستشفيات يطل منه دكتور يعد بحثا عن القدرات غير العادية للبشر ، ومناقشته لأستاذه المشرف على الرسالة ، الذى سيعطيه هو الآخر مهلة مفتوحة نوعا ما لإعداد بحثه ، هذا الدخول السريع سيصدمك لأنك لم ترَ أى مشهد يؤرخ لشخصية ذلك البطل ، ومن ثمّ تبنى عليها أفكاره ، إنفعالاته ، إنحيازاته ،وأحساسيه التى ستقابلك طوال أحداث الفيلم ــ تلك النقطة تحديدا ستقابلك مرة أخرى فى هذا المقال ــ .
ثانياً : وهو شئ فى غاية الغرابة أن ما حدث من تسرع فى إفتتاحية السيناريو سيقابله شئ مناقض له تماما ، بأن تصاب بالملل لمدة لا تقل عن خمسة وعشرين دقيقة يعرفنا فيها البطل ” يحيى المنقبادى ــ خالد أبو النجا ” على باقى شخصيات الفيلم .
ثالثاً : الأداء الضعيف لبطل الفيلم ” خالد أبو النجا ” ، فى الوقت الذى فيه الشخصية تحتاج لمشاعر أكثر من تلك التى أدى بها أغلب مشاهد الفيلم ، لا أنكر أن تلك مشكلتى مع ” خالد أبو النجا ” كممثل ، فهو شخص فى غاية الثقافة ؛ لكن يعيبه عدم تطوير أداؤه كممثل فى معظم أعماله بالرغم من إطلاعه على السينما العالمية وثقافته الواسعة ، نفس الشئ ستراه فى أداء ” عباس أبو الحسن ” الذى لا أبالغ إن قلت بأن الدور كان يحتاج لممثل آخر ، لأن الشخصية مركبة وتحتاج لممثل ” عتويل ” ،على عكس التقدم الملحوظ فى أداء ” نجلاء بدر ” ، والتلقائية الشديدة التى أدت به الطفلة ” مريم تامر ” دورها .
ـ أردت البدء بالنقد ، كى أتفادى الوقوع فى فخ الدروشة التى تصيب عشاق ” داود عبد السيد” وأنا واحد من هؤلاء .
هل أصبح من يسعى إلى الخروج عن القطيع والسير فى ركب المحلقين أناس غير عاديون ويمتلكون قدرات غير عادية ؟!
يحيى المنقبادى إنسان بسيط أو هكذا تخيلنا مع مرور أحداث الفيلم ــ راجع أولى الأشياء الصادمة التى نبهتك بأنها ستقابلك فى المقال والحديث عن الدخول مباشرة فى الأحداث دون التمهيد للخلفية التاريخية للبطل ــ إشتعلت فى عقله فكرة البحث عن البشر الذين يمتلكون قدرات غير عادية ، يذهب لمكان على البحر قريب من الإسكندرية ” تلك المدينة وذاك البحر اللذين لا يخلو فيلم لداود عبد السيد من وجودهما فيه ” ، هذا المكان عبارة عن بنسيون يسكن به مجموعة من الشخصيات تركوا الدنيا وبما بها من زحام وصخب ليعيشوا بجوار البحر حيث الذهن الصافى وأسراب الحمام المحلّقة بحرية فى عنان السماء ، عندها .. وعندها فقط يبدأ عبد السيد فى سرد ما يريد إيصاله من أفكار بطريقته المعهودة .
القدرات الخارقة ” غير العادية ” كما سيتبادر إلى ذهنك فى هذا الفيلم ، هى أن تعمل بالمهن غير المعهودة ، وهى لا تدر ربحا نوعا ما ، وهو ما ستراه جليا فى أشخاص ” البنسيون ” التى تملُكه حياة .. فهناك سترى المطرب ” حسن كامى ” وهو ليس مطرباً عاديا يغنى للحب وهو الطريق السهل الذى يسلكه أى شخص يمتلك صوتا جيداً ، بل هو مطرب أوبرالى ، وكذلك الحال فى دور ” محمود الجندى ” فهو ليس شيخاً متدينا يقرأ القرآن بصوت حسن فحسب ، إنما هو منشد دينى ، يتفق معهما فى ذلك الرسام الذى أدوى دوره المبدع دائما ” أحمد كمال ” ، إنتهاءَ بالمخرج التسجيلى الذى يعد فيلما عن العاهرات .. كل ما سبق ذكره من شخصيات فى ذاك البنسيون مصحوبا بمهنهم ” أو بالأحرى مواهبهم ” توحى لك بأن داود يريد إخبارك بأن كل هؤلاء يمتلكون قدرات غير عادية ، فبِسَلكِهِم الطريق الوعر الذى أختاروه بمحض إرادتهم قد شذّوا عن ركب القطيع والحياة ” العادية ” التى يحياها كل من آثر السلامة ؛ لكن يعيب تلك الفكرة أن كل تلك الشخصيات لم تأخذ الوضع الملائم على الورق ” السيناريو “، وإلا لكانت الفكرة قد وصلت بطريقة أسرع وأكثر إكتمالاً من تلك التى بدت عليها .
الطبيعة فى لحظات التجلى لا تلد من يشبهون الشخص الغارس للبذور إنما تلد من يشبهونها هىَ .
هكذا ستجد ” حياة ــ نجلاء بدر ” الآتية للبنسيون من خلفية متمردة ، ثائرة ، فقد ثارت على الزوج الرجعى الكاره للرسم ، والإنسان دائما عدو ما يجهل ، فذلك شخص يكره الفن ، فالعبيد يمقتون كل ما يمت للحرية بصِلة، حتى لو كان مجرد رسومات على ورقة بيضاء ، وهو ما رآه هذا الزوج فى تلك اللوحات التى ترسمها حياة .. وكما أن الطبيعة فى لحظات التجلى تلد من يشبهونها هى وليس من يغرس بذوره بها ! فكذلك ” حياة ــ نجلاء بدر ” ولدت فريدة ” الطفلة مريم تامر ” ؛ وهو ما جعل الزوج يرى أنها ليست تشبهه هو إنما تشبه أمها الفنانة المتمردة المحلّقة ، فيلفظها مدعيا بأنها نبتة شيطانية ليست من بذوره التى نثرها .
الطبيعة نفسها إذا لم تكن متجددة ، متقلبة ، ثائرة على نفسها شيئا فشيئا ستفقد تفردها بكونها الشئ الوحيد القادر على فعل الخوارق .
وهو ما حدث مع” حياة ” بالرغم من كونها هى المورثّة للقدرات غير العادية للبشر ، وليس لإبنتها فريدة فقط .. فقد نسيت قدراتها ” غير العادية ” بفعل تعودها على الروتينية ــ أو بالأحرى تسليمها الأمر لغارسى البذور يسيّرون حياتها كما يشاءون ــ إلى أن يأتى ” يحيى ” الباحث عن القدرات و ” فريدة ” الحاملة للقدرات جينيّاً فيعيدان إليها قدرتها على التحكم فى مقاليد الأمور وفعل الخوارق كما هى الفطرة التى فطرها الله عليها .
أن تترك حياتك العادية الروتينية وتذهب بإرادتك ــ الحرة ــ باحثا عمن لديهم قدرات غير عادية ، هو فعل ” غير عادى” فى حد ذاته ، بل أشبه بالثورة .
حدث ذلك مع يحيى المنقبادى ” خالد أبو النجا ” حين قرر بمحض إرادته الذهاب بعيدا عن صخب المدينة والمرضى والأطباء بروتينهم المقيت باحثا عمن لديهم القدرات غير العادية ، ليجد نفسه فى بنسيون ــ حياة ــ لاحظ أن إختيار داود للإسم هو أمر فى غاية العبقرية فهو لم يختَر لها مثلاً ” دنيا ” بل حياة ليفرق بينها وبين الدنيا المقيتة الروتينية التى أتى منها .
جاء ” يحيى ” مخلفا وراءه هذا العالم الميت ليحيى الحياة الحقيقية فى بنسيون
” عالم ” حياة .
يظل يحيى همه الأول وشغله الشاغل أن يجد من لديه القدرات غير العادية كى يكمل بحثه ، فيتعثر بـ”فريدة” التى يظن لأول وهلة أنه وجد ضالته ، فيداهمه حُب ” حياة ” ليجد نفسه فى حيرة من أمره .. من منهما تمتلك القدرات ؟ إلى أن يصاب بالعجز جراء حادث سير ، على إثره يدخل فى فترة علاج منطقية ومبررة كى يهدأ عقله ويكف عن البحث ، ويفكر فى أشياء لم تكن فى حسبانه يوما ما .
أثناء فترة علاجه فى المستشفى يهدأ باله ، يفكر بذهن صافِ غير منشغل بالبحث عن الآخرين وهو ما أتى من أجله ، ليبحث عن ذاته وكأنه يراها لأول مرة .. وهنا تتضح فكرة الفيلم فى سلاسة مذهلة ، حين يتيقن أن كل ما كان يراه غير خارق فى أفعال الطفلة أثناء مراقبته إياها ، كان هو الآخر مشاركاً بقدر ليس بالقليل فى هذه الخوارق، أى أنه هو الآخر لديه ما يسمى بالقدرات غير العادية ، وهنا تطرأعلى الفور فكرة يريد الفيلم إيصالها إلى عقل المتلقى ، وهى أن من يشذ عن القطيع منتهجاً نهج الثوار لن ينجز مهمته منفردا ، بل لابد له من رفاق يشاطرونه ما يطمح إليه .. يعنى إيد لوحدها ماتصفقش .
هنا تذهب الفكرة وتأتى السكرة ” نعم تأتى السكرة ” !
تلك السكرة المهلمة االتى تدوخك فى فلكها الذى لا يهدأ دورانه ، ذاك الدوران الذى يذكرك برقصة ” المولوية ” تلك الرقصة التى يعرفها كل من إطَلّع على بديهيات الصوفية ، ترى الراقص من هؤلاء يرقص منتشيا كالثمل فى إيحاء يراه الناظر للوهلة الأولى ، بأن ذاك الراقص من المؤكد عربيد قد عبّ لتوه مُسكرات الدنيا كلها ، حتى وصل لما هو عليه الآن .
أما وقد عرج الفيلم إلى الثورة ، والخروج عن المألوف ، سيأتى الصراع الحتمى: ثوار حالمون vs سلطة باطشة تسعى إلى تدجين كل ما يهدد سلطانها .
بعد أن يذاع سر الطفلة الخارقة إثر واقعة على الملأ فى أحد عروض السيرك ، يصل الخبر إلى السلطة المتمثلة فى ” عمر البنهاوى ــ عباس أبو الحسن ” الذى لم يكذب خبراً ، فيسعى إلى السيطرة على تلك الطفلة بإستعمالها كأداة للضغط على المتهمين للإدلاء بإعترافاتهم ، ليصبح مالكا للحقيقة ، محققا طموحه فى أن يصبح عالما بكل شئ ، ليوحى لك بأن الدول الباطشة ، وما تسعى إليه من جعل العالم كله تحت سيطرتها لهو سعى نحو منازعة الله فى سلطانه !.
أبو القاسم الشابى قال : فلا بد أن يستجيب القدر .. ولم يقل : تستجيب الدولة ” !!.
بعد أن نجح ” عمر البنهاوى ـ الدولة ـ ” فى السيطرة على الطفلة ، يعلم بأن الأم ” حياة ” لديها هى الأخرى قدرات ” أو بالأحرى أنها هى المورثة لتلك القدرات ” فيسعى إلى السيطرة عليها بحجة الزواج بها ، وما أن يتزوج بها حتى تصيبه لعنة الحرائق ، التى تلاحقه فى كل مكان يأوى إليه ، فيظن أن كل هذا بسبب الطفلة ، لكنه لا يعلم أن تلك الحرائق ، لهى غيض من فيض جراء سيطرته على الأم ” حياة ــ الطبيعة الثائرة ــ المورثة للقدرات ”
السيطرة على الأشخاص لهو أمر فى غاية السهولة يقوم به أى باطش مبتدئ ، أما أن تسعى للسيطرة على ” الحياة ” فى إعتقاد واهم بأنك ستنازع الإله فى سلطانه ، لن تسلم شرها ” أى الحياة ” ، فستصب عليك لعناتها ، فهى فطرتها التى فطرها الله عليها .