سامح فايز يكتب : هكذا خرجت من الجنة

إذا بليتم فاستتروا

“إذا بليتم فاستتروا”، كلمات أرسلها صديق عبر صفحتي الشخصية على موقع التواصل الإجتماعي “فيس بوك” قبل ثورة يناير بأيام قليلة، كانت بمثابة نقطة تحول لحياة عاجزة استمرت لستة أعوام مضت، كنت قد ابتعدت عن جماعة الإخوان بأفكارها التي لم يتكيف معها عقلي في العام 2005، ورغم مرور عشر سنوات منذ وطأت تلك الجماعة حياتي في العام 1995 كنت أحاول تمريرها علي ذلك العقل دون أدنى إشارة منه بالقبول. وقوع محل إقامتى بقرية كفر غطاطي إحدى قرى مركز كرداسة زاد المسألة تعقيدا، حتى لو حاولت الابتعاد فسألقاهم في كل مكان أولي وجهى شطره، فكان القرار ردا على تلك الدائرة التي من الصعب مغادرتها بقتل تلك الحياة التي رأيت حينها أنها أضحت بائسة. حتى كان يوم 17 يناير 2011 حين قابلت دعوات الأصدقاء على موقع فيس بوك بالنزول في ذكرى أعياد الشرطة للتعبير عن رفض العنف الممارس ضد الشعب بشئ من السخرية، أصدرت عبارات تهكمية على تلك الدعوات، وكان تعقيبي عليها ترجمة لسنوات من اليأس عايشتها وأنا أحيا التيه العقلي الذي جعل قدمي ترتعش أمام أي دعوة للتغير.. كلمات صديقي على موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك، كانت بمثابة مطرقة هوى أحدهم بها على ذلك الرأس فبدل مسارات الرحلة من شخص عابث شوهته أيادى الجماعات الدينية إلى آخر وجد أخيرا هدف يموت لأجله.

إلا أن الاستجابة فى البداية كانت معنوية ولم تصحبها حينذاك تحرك مادي، ذلك أننى لم أشارك الشباب تظاهراتهم يوم 25 يناير، ومرت الأيام التالية وأنا أقف على المحك أشاركهم الهدف دون أن أكلف نفسى مشقة مشاركتهم الفعل المادي بالنزول إلى ميدان التحرير، وكأني أنتظر إشارة ما من أحدهم.

أعداء الله

فى مساء 27 يناير أعلنت جماعة الإخوان المشاركة بشكل رسمي في تظاهرات جمعة الغضب الموافق 28 يناير 2011، هنا فقط تجرأت للنزول، نعم توجهت بمفردي إلى ميدان التحرير ولم أشارك جماعة الإخوان مسيراتهم التي خرجت من المساجد في اتجاه الميادين بالمحافظات المختلفة، إلا أن قرارهم بالنزول أعطاني موافقة إلهية على تلك التحركات. نعم كانت تخالجني أسئلة كثيرة نازعتني رغبتي في المشاركة، فحواها أنه طالما لم تشارك جماعة الإخوان فإن في المسألة نقصان. كنت رغم ابتعادي عنهم منذ سنوات أتعامل مع المسألة بنفس المنطق، أنها حرب بين أعداء الله وأنصاره، وطالما لم يظهر أنصار الله في الصورة حتى الآن فأنا إذن عاجز عن النزول حتى وإن كنت أتفق مع من أراهم أعداء الله في أفكارهم.

في محاذاة المتحف المصرى ناحية ميدان عبد المنعم رياض كنت أحمل الكاميرا الخاصة بي وأوثق الأحداث، كنت على يقين أن وسائل الإعلام ستخرج في الغد لتخبر الجميع أن التظاهرات فشلت وأنه ما من أحد استجاب فأردت أن أثبت ولو بالصورة أن هناك من يخرج ويطالب بالتغير. نوع آخر من اليأس مفاده أن التظاهرات ستفشل وأنني سأكتفي ببعض الصور أوثق بها الأحداث ومن ثم أضعها على صفحة فيس بوك ليراها بضعة آلاف غيري ومن ثم نتباكى على لحظة للتغير ضاعت هى الإخرى مثل لحظات أخرى سبقتها.

بضعة ساعات مرت حتى كانت الثالثة عصرا، وأنا حبيس تلك النقطة أمارس وبعض المئات من الشباب لعبة الكر والفر مع قوات الأمن المرابضة في كل شبر بمحيط ميدان التحرير، نقترب من المنطقة التي تحوى ثمثال عبد المنعم رياض فتمطرنا قوات الأمن المركزي بقنابل الغاز فتعود الجموع أدراجها ومن ثم نكرر المسألة، بضعة ساعات من الكر والفر حتى أصابني اليأس من جديد، دب الخوف في نفسي بعد أن غادرني لساعات قليلة فقررت الانصراف من المكان، لم أكن أعلم أن هناك مئات الآف في طريقهم للميدان لمناصرتنا، ظننت أنه لن يأتي سوانا، كنت داخل محيط الميدان بالفعل في الوقت الذى كان يتساقط شهداء وجرحى على مقربة مني أعلى كوبري قصر النيل.

اصطحبت معي قنبلة غاز فارغة للذكرى مع عشرات الصور التى انتويت أن أثبت بها للجميع أنه قد خرج المئات يوم الجمعة مطالبين بالتغير، إلا أننى وفور أن دخلت إلى منزلي وأدرت مشغل التلفاز حتى أتتني الأخبار بتلك الأحداث التى شهدناها جميعا. أصابتني حالة من الندم أنني خذلت تلك الجموع ولم أقتل اليأس في تلك اللحظة، لكن كانت الفاجعة الأكبر حين علمت أن جموع الإخوان الغفيرة التى خرجت من المساجد وتظاهرت في شوارع مصر عادت هى أيضا ولم تبق في الميادين وأن من بقي هم تلك التيارات الليبرالية واليسارية من تربينا على أنهم جماعات لا دين لها وأنهم في أفضل الأحوال تيارات مغيبة تحارب من أجل تغريب تظن أن صلاح أمتنا فيه.

أين أنصار الله؟

في صباح يوم السبت 29 يناير توجهت إلى ميدان التحرير، كنت بصحبة صديق من قريتي، دخلنا الميدان وانزوينا جانبا، لم نكن ندرك وماذا بعد؟.. لكن ذلك الشعور بالحرية والإستقلال المؤقت الذي غمرنا داخل ميدان التحرير أجبرنا على البقاء، إن كانت نهاية ما نحن فيه الموت فليكن، فنحن في خارج الميدان أيضا موتى حتى وإن كان داخل الجسد روح تدب وقلب يتحرك، فاليأس والتيه والحياة غير المرتبة التى كنا نحياها كانت موتا أيضا، أما الآن فنحن ملكنا زمام حياتنا ولو لساعات، كنا حقا نتنفس حرية.. ولكن في لحظة صفاء أدرت عينى في الميدان، أخذت أصول وأجول وأنبش جنباته عنهم فلم أشاهدهم، سألت نفسي في استغراب، أين أنصار الله؟ أين جماعة الإخوان المسلمين؟ فلم أجد رد.
ثورة يناير

فى مساء يوم الإثنين 31 يناير اختفى صديقى الذى صحبنى من القرية لنشارك فى اعتصام ميدان التحرير، لم نفارق بعض على مدار ليلتين، حاولت الإتصال به لكن هاتفه المحمول لا يرد، أحسست خوف يتسلل إلى قلبى، مرات عديدة حاول أن ينسل إلى شارع محمد محمود وكنت أمنعه من التقدم إلى الأمام، تلك الجثث التى كانت تخرج تباعا من قلب الشارع كانت تزيدنى إصرارا على رفض التسلل أكثر من ذلك، هل فعلها وغافلنى، ليشترك مع آخريين فى مواجهة قوات الشرطة أمام وزارة الداخلية، كان تخيلا رفضه عقلى سريعا، لأن الأحداث الساخنة كانت يوم السبت وصباح يوم الأحد، أما الليلة فالميدان أضحى دولة تدار بواسطة المتواجدين على أرضه. قمت من مكانى وآخذت أتجول فى الميدان، تجمعات مختلفة فى أماكن متفرقة كلا منها يحتفل بتلك اللحظة على طريقته الخاصة، لكن جميعها كانت احتفالات وددت لو كنت طرفا فيها، لكنى أشعر حتى الآن أننى لازلت غريبا.مرت ساعة وأنا على ذلك الحال ولازال هاتف صديقى لم يرد. حتى كنت فى تلك المنطقة بالميدان القريبة من مجمع التحرير، وجدت مدرب الكونغ فو الذى تدربت على يديه منذ سنوات، كان لمسة حياه وجدتها فى تلك العزلة التى أحياها فهرولت إليه، أرسلت تحية لكنه لم يقابلها بمثلها، كان جل تركيزه فى مسألة أخرى، مدرب الكونغ فو كان يعمل على حماية بعض المصلين فى جانب الميدان، نظرت فى وجوههم فرأيت تلك الخصائص التى انتظرتها طويلا، لقد ظهرت جماعة

فى عصر يوم الثلاثاء 1 فبراير كانت أول مليونية تدب أرض ميدان التحرير، لم يكن فى الميدان موطئ قدم لأحدهم، كنت لاأزال أحمل الكاميرا الخاصة بى وأرسل عدستها فى مواجهة المتظاهرين، استمر ذلك الحال حتى استوقفنى أحدهم وسط الحشود، كان أحد أصدقائى من أعضاء جماعة الإخوان ومعه آخر، سلم على سريعا ثم انطلق، لكننى تبعته وهو يتجول بين الجموع كمن حضر ليتنزه لا ليثور. مشيته الهادئة، يده التى أرسلها داخل جيب “جاكيتته”، ابتسامته الساخرة التى أرسلها للآخر الذى يسير بجواره، ابتسامة تفسيرها الوحيد أنه لا يأبه بتلك الجموع، ظهر كصياد ينتظر فريسة، لكنه لن يبذل مجهودا، سيترك آخريين يقومون بالمهمة نيابة عنه، ثم ينقض ليحصد غنيمته.

موقعة الجمل

فى صباح يوم الأربعاء 2 فبراير كان قد اشتد على المرض، مرت خمسة أيام وأنا أفترش أرضية ميدان التحرير، لم تكن الخيام والبطاطين ومواد الإعاشة قد ظهرت بكثافة، ولأننى لازلت وحدي فلم يكن هناك من يعيننى على إيجاد خيمة تحمينى شدة البرد، فكنت أفترش أى رصيف لأنام فى العراء، لم يتحمل جسدى الهزيل ذلك، قررت أن أعود إلى بيتى أستريح قليلا ومن ثم أعود إلى الميدان، مع العلم أن رغبتى فى العودة إلى الميدان لم تكن ملحة، خاصة بعد خطاب الرئيس السابق حسنى مبارك، شعرت أنه لن يتنازل بسهولة وأن صداما فى الطريق آت لا محالة أقوى من السابق، عدت إلى منزلى وأنا منهك القوى فاستسلمت للفراش. لم أستيقظ إلا فى المساء، لأجد معركة تدور فى جنبات الميدان، لكن بين مدنين، بين مؤيد ومعارض، ليست مع قوات الشرطة كما اعتدت فى الأيام السابقة. عندما خرجت للمشاركة فى المظاهرات لم أكن أضع فى اعتبارى أننى سأقاتل مصرى مدنى، أو حتى عسكرى، العنف كان مرفوضا فى المقام الأول والآخير، أدرت قنوات التلفاز محاولا الوقوف على حجم العراك إلا أننى لم أستبين شئ، الإعياء الشديد كان قد تملك منى ولم أقو على الخروج من منزلي، أمسكت بهاتفى واتصلت بأحد قيادات الإخوان فى قريتى، كنت من السذاجة حتى أطلب منه أن يوقف العراك الدائر فى الميدان لأننا هكذا نذبح بعضنا البعض ولن يأتى العنف بطائل والنتجية فى النهاية هى خسارة الجميع، لست فى الميدان لأعرف مدى الخطر، ووسائل الإعلام كانت أقبح ماتكون فلم تنقل الصورة كاملة، كلها أسباب محيطة أعجزت عقلى عن التفكير، لكن الرد الذى جاءنى عبر الهاتف من ذلك القيادى الإخوان أحال عجز التفكير إلى شلل تام، قال:” إحنا ما نقدرش نسيب الميدان، لو مشينا دلوقتى الإخوان هيندبحوا”. حين كنت أفكر فى وطن يقتل أبناءه بعضهم البعض كان القيادى الإخوان يفكر فى مصير جماعته فقط، كان يخشى على جماعته من الدبح ولم يكن يضع فى الإعتبار وطنا يكاد ينهار.. تمنيت لو جاءنى ردا آخر أيا كانت مدى سذاجته، إلا أن تلك الكلمات أكددت لى حقا أننى أحارب من أجل وطن غير الذى تحارب من أجله جماعة الإخوان…

اقـرأ أيـضـًا:

14 تصريحا من مراسلة الميدان ضحي الزهيري

عندما كتب عبد الله كمال : نلتقي بعد الثورة

.

تابعونا علي الفيس بوك من هنا

تابعونا علي تويتر من هنا