في موسم الوفرة لا يوقفني شيء.
قد أفتح اللاب توب فيلبّد الرؤية ماءٌ يفيض عن مقلتيّ إذ تداهمني بلا مقدمات وحشة غياب أمي، لكن الأفكار تتداعى بلا هوادة، فلا أملك معها رفاهية رفع أصابعي لمسح الدموع، فأواصل الكتابة واثقة من تبخر الماء -عوضًا عن الأفكار- إن عاجلًا أو آجلًا. أمضي وقد أحالت الحماسة أناملي عصافير، لا تكاد تحطّ حتى تطير ثانية، تحط فتطير، فتحط، فتطير إلى الأبد.
وفي موسم الجفاف أيضًا لا يوقفني شيء.
قد أكتب والسأم يقتلني وإن كان مصدره ما أكتبه ذاته أو فعل الكتابة أو الحياة كلها. لكنني أثابر حتى وإن تثاءبت ضجرًا من شحّ الأفكار. حتى لو أثقل النعاس جفوني وألصقها ببعضها كغراء خارق، أقاومه وأكتب. وقد أكتب والنعاس خصم أسطوري يحميني منه الأرق، وكلا عينيّ فنجان يحملق كجندي متربّص بعدو متسلل.
مكمن الخطر أن يصيبني نَصَبٌ، فآخذ فسحة وتجد أصابعي طريقها لأمل دنقل، أقرأ أشعاره التي تعصف بعقلي، وتذهب بي في غياهب تيه إبداعي، يطول ويطول، فيخيّل لي كل مرة ألا عودة منه أبدًا. وما الذي بقي ليكتبه أي أحد بعد أن كتب هو:
«وهل تساوي يد.. سيفها كان لك
بيد سيفها أثكلك؟»
كيف لعينيّ، وهما تسمعان هكذا موسيقى، أن تقرآ أي نصّ آخر، أو تتواطآ لكتابة أي نص آخر؟
أمل دنقل الذي لم أعاصره، وتأخرت في الوصول إليه، شاعر مجروح، أبياته تجعل هزيمة ٦٧ تسحقك مرتين، مرة لأنها هزيمة، ومرة لأنها ذبحت إنسانًا مرهفًا يحمل سائرنا داخل خلاياه العصبية.
فأين بربك المفرّ -وإن أغمضت عينيك- من منظره قتيلًا مسلوب الأرض بينما الصمت يسخر منه؟
«الذي اغتالني: ليس ربًا..
ليقتلني بمشيئته
ليس أنبل مني.. ليقتلني بسكينته
ليس أمهر مني.. ليقتلني باستدارتِهِ الماكرة
لا تصالحْ
فما الصلح إلا معاهدةٌ بين ندَّينْ..
(في شرف القلب)
لا تُنتقَصْ
والذي اغتالني مَحضُ لصْ
سرق الأرض من بين عينيَّ
والصمت يطلقُ ضحكته الساخرة!»
كيف لك أن تطيق لحظات السكوت بقية عمرك، وأنت تتصور الصمت يرمقك، بل وتسمعه يضحك منك رغم تنافي ذلك بالضرورة مع كنهه الأبكم؟!
كيف لكبدك أن يتحمّل ذلك الوصال الإيقاعي بين: «ليسَ ربًا»، وبين «محضُ لصٍّ»، ثم تواصل حياتك بعد ذلك، وكأن كبدك لا ينزف من فرط الجمال؟!
كيف تتلقّى أنباء كامب ديفيد ومدريد وأوسلو، بعد أن بدّد دنقل في مخيلتك ذلك الوهم للأبد، بدّده متزامنًا معه، ومستشرفًا له، حرق على المداهنين حججهم، قبل أن تخطر في أذهانهم وقال:
«لا تصالح
ولو ناشدتك القبيلة
باسم حزن «الجليلة»
أن تسوق الدهاءَ
وتُبدي -لمن قصدوك- القبول
سيقولون:
ها أنت تطلب ثأرًا يطول
فخذ -الآن- ما تستطيع:
قليلًا من الحق..
في هذه السنوات القليلة
لا تصالح
ولو قيل إن التصالح حيلة
إنه الثأرُ!!
تبهتُ شعلته في الضلوع..
إذا ما توالت عليها الفصول..
ثم تبقى يد العار مرسومة (بأصابعها الخمس)
فوق الجباهِ الذليلة!»
كيف يكتب أيُّ أحد أيَّ شيء، وقد كتب دنقل الكلمات التالية بدم بارد، بلا ذرة اكتراث واحدة، بلا رحمة، بقسوة قاتل محترف، وهو يعلم أن روعتها ستقلب عالم قارئها رأسًا على عقب، أنها ستكتسح القارئ المسكين، وتطحنه وتنثر رماده لتذروه الرياح:
«إنني لا أعتقد أن الشاعر في قلبي تقاسم الكينونة مع القاتل في أعماقي، لقد قتلت عبر سنوات العذاب كل أمل ينمو بداخلي، قتلت حتى الرغبات الصغيرة والضحك الطيب لأنني كنت أدرك دائما أنه غير مسموح لي بأن أعيش طفولتي، كما أنه من غير المسموح به أن أعيش شبابي، كنت أريد أن يكون عقلي هو السيد الوحيد لا الحب ولا الجنس ولا الأماني الصغيرة».
أنّى لأي أحد بكلمات تليق بأمل دنقل، وقد صاغ معجمه الخاص الذي يستقي منه مفردات لا تتبدى إلا له هو، أو تتبدى لنا جميعًا، لكنها تظل عادية، إلى أن ينتقيها هو، فتستحيل دررًا نادرة؟
أجدني -لأرثي الشاعر بما يليق به- مضطرة لاستعارة عبقرية شعره، فأقول:
أمل دنقل… بغيابك «غاب الكمان».
وأجدني -كي أستطيع مواصلة الادّعاء بالكتابة- مضطرة لإخفاء دواوينه في أعماق مكتبتي.
اقـرأ أيـضـًا: