محمد صلاح البدري يكتب : عن فن إساءة الأدب!

لم أكن أتخيل أنني قد أحتاج لمقال كامل لهذا الحدث الذي بعتبر تافهاً بالفعل.. و لكن يبدو أن الأمر قد إستفحل ليصبح ظاهرة تستحق الدراسة ..بل والتأمل العميق ايضاً

الأمر هذه المرة يتعلق بذلك الفيديو الذي نشره إثنان من الشباب  علي موقع التواصل الإجتماعي الشهير.. الأول  يعمل مراسلاً في برنامج تلفزيوني كوميدي يحظي بنسبة مشاهدة عالية.. و الشاب نفسه قد إكتسب شهرة لا بأس بها بإعتباره الوحيد في هذا البرنامج الذي ينجح في إنتزاع الضحكات من المشاهدين في أغلب الأحيان!

والشاب الثاني ممثل شاب – وليس فناناً بالمناسبة لأنني أري ان الفارق كبير بين الوصفين- صعد بسرعة كبيرة الي مصاف النجوم لأسباب تتعلق بإمكانياته الشكلية في المقام الأول .. فلم أري ابداً أن تمثيله عبقري إلي هذه الدرجة .. فقط هي تلك الفتيات اللاتي أصبحن متيمات به لسبب تعرفنه هن فقط!

الفيديو -لو أردنا تصنيفه بعين محايدة- فلن تستطيع أن تنكر أنه يحمل كماً هائلاً من البذائة و سوء الأدب.. الأمر لمن لم يشاهده يتعلق بإستخدام “الواقي الذكري” كبالون وتقديمه إلي أفراد الشرطة في ذكري ثورة يناير و كأنه إحتفال بهم!

في ظروف مختلفة أو في بلد أخري ربما كان الإستنكار هو ما سيقابلوا به من الجميع.. فالإيحاءات الجنسية التي يشير إليها هذا الفيديو لن يقبلها أحد للشرطة أو لغيرها.. و لكننا في مصر..حيث تمكننا من إختراع فن جديد يدعي فن اساءة الادب! ..و حيث تمكنت الشرطة أن تخلق لها من يحمل ثأراً نحوها.. و لهذا وجد الشابان من يعجب بما فعلوا بل و يثني عليه!

لن أتحدث عن إستحقاق جهاز الشرطة لدينا لهذه الإهانة .. فالواقع أن لغطا كثيراً قد يحدث في هذا الشأن.. وقد نصل في النهاية إلي النقطة المعتادة في كل نقاش والتي تجعلنا لا نصل إلي شيء في الأغلب!

فقط ساءني بشدة أن يستغل الشابان بعض المجندين البسطاء الذين فرحوا بالكاميرا و أخذوا منهم هذا الواقي بسعادة غامرة.. دون أن يدركوا حقيقته من الأساس.. أعتقد أنهم لم يملكا الشجاعة الكافية لتقديم هديتهما ” البذيئة” لضابط في نفس عمرهم مثلاً..! أو أعني لمن سيكتشف حقيقتها !

الواقعة نفسها غير هامة بالمرة.. بل أعتقد أنها أقل من أن تشغل تفكير من يراها أو حتي يسمع عنها إلا بمقدار الدقائق التي يستغرقها الفيديو نفسه.. ربما ينتابك الإشمئزاز كما حدث معي للحظات.. إنه نفس الشعور الذي ينتابك حينما تري شاباً يسخر من عجوز في الشارع.. هل تعرفه؟ .. إنه شعور بالرغبة في أن تنقذ الضحية من براثن ذلك الشاب الشرير وكأنك مسئول عنها بشكل ما.. فتقدم العون للعجوز..و تعنف الشاب  قليلاً.. ثم ترحل في هدوء!

الطريف هو كل ما حدث خلال الايام الماضية.. فالأمر قد أصبح ظاهرة.. و الكل يدلي بدلوه فيها.. لقد خلق الشابان حالة من الجدل حول فعلتهما التي هي لا شيء بالمرة !..

البعض قد إستنكر الفعلة لأسباب تتعلق بهيبة الشرطة و الدولة إلي آخر هذا الكلام الذي يستحق النقاش.. و البعض الآخر قد تضامن معهم!.. و بمنطق عجيب لا أعرف كيف يفكرون به!.. قلة قليلة هم من رأوا المشهد بعين المجند المسكين!..والتي بالمناسبة أراها أشرف من كل الأطراف!

الفكرة أن معسكر المتضامنين يبررون الأمر بأن الشرطة تستحق !.. و أن كلاً من الشابين قد تعرضا للايذاء منها في أحداث ثورة يناير.. و لكنهم لم يشرحوا لنا ما ذنب هؤلاء المجندين؟!.. و ما العلاقة بين أن تظلم في موقف ما.. و أن تخطيء في حق البعض بعدها .. و كأن المظلوم من حقه أن يفعل ما بدا له في الجميع!..

انه نفس المنطق الذي جعل يناير تخسر شرائح مؤيديها باستمرار مضطرد! ..إنه نفس الفكر الذي جعل شباب الثورة يظنون أن نزولهم في يناير اعطاهم تصريحاً بكل شيئ .. و منحهم أحقية انتقاد المجتمع في ما يحلو لهم.. إنه التعالي و الغرور الذي أبعدهم عن الشارع يوماً بعد يوم.. و الذي جعلهم كالنظام تماماً.. كلاهما يخسر البسطاء .. وبالمجان!!

أعتقد ان هذا الخلط الذي نقع فيه دوماً يجب أن يتوقف.. وإعتذاراً واضحاً صريحاً من الشابين يجب أن ننتظره .. دون أن يذكرونا بتاريخهم النضالي .. الذي لا يعطيهم اي حق .. في ان يهينوا مجنداً بسيطاً.. و مجتمعاً اكثر بساطة!