كانت الاتصالات قد عادت بعد انقطاع دام طوال جمعة الغضب. وصل عدد مراسلى الجريدة الامريكية القادمين الى القاهرة الى ستة بالاضافة لثلاثة مصورين بجانب رئيس مكتب الجريدة المقيم بالقاهرة و مساعده العبد لله. صرنا نصدر ما بين خمسة و عشرة اخبار يوميا فى وقت لم يجيد فيه احدا من الصحفيين القادمين من واشنطن و لوس انجلوس و نيويورك و بوينيس ايريس اللغة العربية مما ادى الى عملى كمساعد و مترجم لاولئك العشرة خلال عدة ايام بين يناير و فبراير 2011، و ذلك حتى تم الاستعانة بعدد اخر من المترجمين بأجر يومى.
استيقظت صباح الثانى من فبراير و كما جرت عادتى الشخصية خلال الثمانية عشر يوما على النهوض جريا الى شاشات التلفزيون للتأكد من بقاء الاعداد اللازمة لاستكمال اعتصام التحرير حتى يتنحى مبارك. كنت اخشى حدوث اى شئ يؤدى الى فض الاعتصام و خاصة بعد خطاب مبارك العاطفى مساء الاول من فبراير. كنا نعقد اللقاء التحريرى اليومى ببهو فندق رمسيس هيلتون، و الذى شكل النقطة اللوجستية لتقابل مراسلى الجريدة و مقر اقامتهم بالقرب من الميدان. تم ترتيب الاولويات وفقا لما طلب من كل مراسل بواسطة محرر الشئون الخارجية بأمريكا و اتفقنا على ان اصحب رئيس المكتب و مصورة الى السويس من اجل العمل على تقرير صحفى من ميدان الاربعين الذى كان قد هدأ بعد عدة ايام من المظاهرات الدموية التى سبقت اعتصام التحرير نفسه.
انطلقنا و انا ارى ان اعداد المعتصمين بالميدان قد تناقصت نسبيا لكن انخفاض المتظاهرين خلال الصباحيات كان امرا معتاد على ان يزحف الالاف الى الميدان بدءا من عصر كل يوم. كان لدى مخاوف من ان خطاب مبارك قد يقنع العديدبالبقاء فى منازلهم و كنت استشيط غضبا من ارسالى الى السويس فى اكثر الايام التى تمنيت فيها ان اعمل من قلب الميدان. انهينا عملنا بالسويس و خلال طريق عودتنا تلقيت العديد من الاتصلات كلها افادت بان احدا لم ينضم للاعداد التى قضت ليلتها السابقة بالتحرير. اصابنى شعور بالرعب و الاحباط و خيبة الامل و ضياع الحلم و ربما ما هو اكثر من ذلك حتى وصلنا الى القاهرة فى تمام الرابعة عصرا حيث كانت نقطة الانزال المعتادة امام الهيلتون.
منع الجنود بكمين الجيش مرور اى فرد الى خارج المنطقة المحيطة مع قرب بدء ساعات حظر التجوال بالاضافة للمعركة الجملية التى دارت قبل ذلك الحين داخل الميدان. رأينا المئات من البلطجية يحيطون بالميدان من ناحية عبد المنعم رياض لكننا لم نفهم انذاك ما كان قد جرى ولا زال يحدث.
جائتنا الاتصالات من مقر الجريدة تأمرنا بالابتعاد التام عن الميدان حرصا على سلامتنا و خاصة المراسلين الاجانب الذين تم استهدافهم من قبل مناصرى مبارك المدججين بشتى انواع الاسلحة البيضاء و السوداء حين لزم الامر. تم الاتفاق على ان اقضى ليلتى بحجرة بالهيلتون. كانت ادارة الفندق قد قررت عدم حجز ايه غرف للمصريين و حتى القادمين الجدد من الصحفيين الاجانب وجدوا صعوبة فى ايجاد حجوزات فى ظل رغبة ادارة الفندق فى طرد جميع المراسلين بناء على تعليمات امنية محددة. تمكن احد المراسلين بالجريدة من حجز غرفة لى تحت اسمه و صعدت جريا فى ظل انشغال الامن بمتابعة ما يجرى خارج الفندق.
حينها فقط بدأت فى رؤية مشاهد الموقعة على شاشات التلفزيون. بل و بدأت التغطية الحية لمعركة العصور الوسطى الدائرة ما بين المعتصمين و انصار مبارك بميدان عبد المنعم رياض. لا اعتقد اننى اسهمت فى اى من المواضيع الصحفية التى اصدرتها الجريدة من القاهرة لبقية اليوم. فقدت تركيزى بشكل كامل و لم اتمكن من السيطرة على مخاوفى من احتمالية فض الاعتصام و هى الاحتمالية التى بدت اقرب الى الواقع فى تلك اللحظات من ذلك اليوم العصيب. شرفة حجرتى لم تظهر سوى الجانب الابعد من الميدان حيث قامت منصات المعتصمين. معظم التقارير الاخبارية العالمية كانت تتجة الى ان ما بدأ من تظاهرات فى الخامس و العشرين من يناير اصبح على وشك الانتهاء و على الجميع ان يرضوا بما قدمه مبارك من تنازلات. شعرت بالخوف من النزول الى الميدان فى ظل امكانية عدم قدرتى على دخول التحرير من ناحية، بالاضافة الى صعوبة العودة الى الفندق اذا اقتضت الظروف من ناحية اخرى. تمثلت المعضلة الاكبر فى شح الاخبار القادمة من ارض الميدان وسط اشاعات مفادها ان هناك جيشا كاملا من جحافل البلطجية الذين لن يتوانوا عن البطش باى شخص يحاول الوصول الى التحرير.
قضيت سبع ساعات داخل تلك الحجرة مستمعا لصوت محمد البلتاجى و عبد الحليم حافظ متغنيا ب”الله اكبر بسم الله بسم الله” من اعلى منصة ما تبقى من الاخوان بالميدان. كانت الاشارة الوحيدة هى ذلك الصوت القادم من تلك المنصة: طالما بقى فإننا لم نخسر الميدان بعد. تخلل الانتظار ساعة واحدة نزلت فيها لمطعم الفندق لتناول العشاء. شعرت بتأنيب ضمير رهيب ذلك اليوم، ليس فقط من عدم قدرتى على القيام بواجبى الصحفى من داخل الميدان او لعدم قدرتى على الانضمام للمتظاهرين، بل لاننى كنت انعم بامتياز متابعة ما يجرى من داخل فندق خمسة نجوم و اتناول العشاء بمطعمه بينما يموت اخرون على بعد اقل من خمسمائة متر!
اغضبنى ايضا مشهد المراسلين الاجانب بالمطعم و هم يتناولون عشائهم وسط الاحاديث عن المغامرات و الضحكات المتعالية بينما يقتل المتظاهرون بالخارج وسط تعثر كبير للثورة باكملها. حقيقة الامر انه لم يكن لى الحق ان اطالب احدهم بالبكاء على ما يجرى، ففى النهاية هم ليسوا مصريين و قد اتوا لتغطية الحدث الاهم على الكوكب و حصلوا على لحظة مجدهم الصحفى التى سيذكروها طالما حييوا، لكن ما قد يحث فى مصر بعد ذلك لا يتعدى طور الامنيات الدافئة بمستقبل افضل لذلك البلد الذى عملوا فيه يوما.
حل منتصف الليل و شعرت بأن الفرصة قد حانت للدخول الامن الى الميدان. اتصلت ببعض الاصدقاء فى الميدان و قال لى احدهم انه يمكننى الدخول الى التحرير من ناحية قصر النيل اذا ما تمكنت من المرور دون الاستيقاف من قبل افراد الجيش او البلطجية. بدا بهو الفندق مهجورا و خرجت لأجد احد مجندين الجيش ممن لا ناقة لهم ولا جمل يسألنى عن وجهتى. قمت عفويا بالتصرف الاقل أمانا و ابرزت بطاقتى الصحفية لكن من حسن الحظ انه لم يعلم اصلا ما كانت تلك البطاقة تعنيه كما ان وجودى بمفردى جعله يدعنى امر. كان لازال هناك المئات من البلطجية مترامين ما بين الكورنيش و الميدان فى رمقهم الاخير من المعركة الخاسرة. ايقنت انه لن يمكننى المرور الى قصر النيل سوى عبرهم. بقيت لحوالى ساعة وسطهم مدعيا اننى احد انصار المخلوع فاطمئن بعضهم الى بينما انشغل الاخرون بالنزال. حينها قدمنى احدهم لقنبلة يدوية تدعى ال”مونا” و هى عبارة عدد من المواد اللاصقة الملفوفة حول امواس ممزقة الى قطع صغيرة ترتشق بوجه المتظاهرين حين تنفجر اثر القائها عليهم.
مرت الساعة و تمكنت من مهاتفة مديرى لاطلاعه على تغيير دفة المعركة لصالح المتظاهرين. فى البدايه وبخنى بسبب نزولى الى الشارع معرضا حياتى للخطر ثم سرعان ما تناسى العنصر الامنى حينأطلعته على الوضع الدائر بعبد المنعم رياض. تسللت الى ناحية الكورنيش حتى تمكنت من الوصول الى مدخل الاعتصام من ناحية كوبرى قصر النيل. اللجنة المكلفة بحماية المدخل بدا على اعضائها الانهاك الشديد جراء يوم مشهود لا شك فى انه محفور بذاكرتهم حتى اليوم. فى الميدان،رأيت عدة الاف من المعتصمين. الاغلبية العظمى منهم كانت من الشباب الذين دعوا الى تظاهرات الخامس و العشرين و جمعة الغضب و اعضاء الاخوان المسلمين ممن ضربوا بقرار جماعتهم بالانسحاب من الميدان عرض الحائط و قرروا البقاء و كان لهم النصيب الاكبر فى الدفاع عن جبهة عبد المنعم رياض. انشغل الاطباء بالمستشفى الميدانى فى علاج من اصيبوا خلال اليوم بالاضافة الى اؤلئك الذين ظلوا يتوافدون اثر اصاباتهم خلال مواجهاتالدائرة مع البلطجية.
اردت التعويض عن بقائى بعيدا طوال اليوم و قررت التوجه الى جبهة القتال للمساهمة بما يمكن لجسدى الضعيف ان يضيفه لشجاعة اولئك الذين ظلوامرابطين فى دفاعهم عن الاعتصام. كل ما بالميدان كان قد تحول الى الة قتالية ما او الى قطعة يمكن الاستفادة بها للاحتماء بدءا من بلاط الارصفة الى عواميد الاضاءة. فيلق عبد المنعم رياض كان اغلبه من اخوان الاقاليم تحديدا. لا يمكننى نسيان مشهد ذلك الرجل الذى وقف على احد الاسوار الحائلة بين البلطجية و المتظاهرين دون الاحتماء باى شئ، رافعا يديه متحديا اياهم بينما مرت الحجارة و قنابل المولوتوف و غيرها من على يمينه و يساره دون حتى خدشه. اعطانى احدهم قمعا من اقماع المرور لتغطية رأسى به. كان اثقل من ان يبقى على توازنى، كما ان ضعف ذراعى فى القاء الحجارة جعلنى اخشى من ان اكون قد اصبت احد المتظاهرين عوضا عن البلطجية و مناصرى مبارك على الجانب الاخر من السياج. موقعة عادت بنا بنا الى العصور المظلمة بدءا من دخول الجمل الى استخدام الحجارة فى الطرق على اسوار الميدان الحديدية لبث الرعب فى قلوب البلطجية.
قضيت ساعتين بالميدان حتى انهكت تماما و جال فى بالى وقتها مثابرة هؤلاء ممن قضوا اليوم كاملا فى قتال البلطجية. تمكنت من العودة الى حجرتى بالفندق ثم سمعت صوت طلقات نارية و هى الاولى و الاخيرة التى سمعتها ذلك اليوم، حيث اعتمد الجانبان على الحجارة و الطوب و المولوتوف و تلك المونا بشكل اكبر طوال ليلة العراك. انتابنى القلقفاتصلت باحد اصدقائى ممن بقوا فى التحرير ليرد عليا والده و يخبرنى بمرور سيارة اعلى كوبرى اكتوبر ترجل منها مسلحان و اطلقوا النار عشوائيا مما ادى الى مصرع اثنين من المتظاهرين. شكلت تلك الحادثة فصل النهاية من موقعة الجمل بالثانى من فبراير عام 2011، فبعدها لم يتبقى سوى العشارت من البلطجية الذين سرعان ما قرروا الانسحاب اثر فشل الطلق النارى فى ترويع المتظاهرين: “مرة واحدة لقيناهم جريوا و سابوا المكان و كأنه نصر من عند الله” هكذا قال والد صاحبى من داخل ميدان التحرير قبل لحظات من بزوغ فجر الثالث من فبراير.