شاركت منذ أيام في ندوة بعنوان المسكوت عنه في الاعلام المصري مع مجموعه من الزملاء الرائعين عماد الدين حسين ومنى سلمان ومحمد الباز وأشرف عبد الشافي ضمن فعاليات معرض القاهرة الدولي للكتاب ، كنا نجلس على مائدة مستديرة ، نتجاذب هموم المهنة وتتجاذبنا في محاولة للكشف عما هو مسكوت عنه ، وهي مساحة كبيرة و ملغومة في مشهدنا الاعلامي المرتبك ، تزداد يوما بعد يوم ، الا أننا اكتشفنا أن مساحة المسكوت عنه أكبر بكثير مما هو معلن للجمهور بل و ما هو معروف ومعلن لنا نحن أبناء هذه الصناعة الأدرى بشعابها وكواليسها ، كنا نظن أننا قادرون على أن نبوح ببعض المسكوت عنه ، انتظر منا الحاضرون اجابات عن أسئلة كثيره تعكس في مجملها حالة عدم الرضا لديهم عن أداء الاعلام والاعلاميين هذه الأيام ، حاولنا قدر استطاعتنا لكن بقيت أسئلة كثيرة معلقة في فضاء القاعة بلا اجابات.
وأثناء الندوة ألقى الزميل محمد الباز بحسه الصحفي بمانشيت – قنبلة في وجه الحاضرين و قال : “أنتم فاسدون الجمهور أصلا فاسد”
و هو من يفرض على المؤسسات الإعلامية تناول القضايا التافهه ، مدللًا على ذلك بتصدر موضوعات “كيم كاردشيان” محركات البحث، قائلًا: “الجمهور ذوقه فاسد ويبحث دائمًا عن الأشياء التافهة”. اذا كان هناك خلل فيمن يرسل فالخلل أيضا فيمن يستقبل الرسالة الاعلامية.
ولعل كلام الزميل الباز يدفعنا لاستحضار الكليشيه الشهير (الجمهور عايز كدة) ، وهو كليشيه كالمخدر تماما يريحنا من البحث الحقيقي عن الأسباب الموضوعية لانهيار ذوق المشاهد ، يعاد انتاجه في كل مره نتحدث فيها عن انهيار الذوق العام للجمهور وما طرأ عليه من تغير ، والمتتبع لعادات وأنماط المشاهدة للجمهور المصري يكتشف بالفعل أن المشاهد للأسف مولع بمشاهدة المضمون الفضائحي والغريزي ، وخناقات الضيوف وصراعاتهم كمبارزات الديكة على الهواء ، كلما اشتد الصراع على الهواء كلما زادت نسب المشاهدة ، فمشاهد اليوم لم يتعود أن يتابع أفلاما علمية وثائقيه على ناشيونال جيو جرافيك أو برامج ثقافيه عن فنون الابداع كالموسيقى والشعر على قناة النيل الثقافية مثلا !! ، تشير احصائيات العديد من الرسائل العلمية الأخيرة في كلية الاعلام أن المضمون العلمي والثقافي يتذيل تفضيلات المشاهدة ويأتي في المرتبة الأخيرة ، وهذا السلوك من قبل المشاهدين يفتح شهية وكالات الاعلان وملاك القنوات لكي يغازلوا غرائزه أكثر، ويغرقوه في دائره من البرامج التافهه.
وفي الحقيقة أن الجمهور ليس فاسدا ، ليس الموضوع جينيا ، لم يولد حاملا جينات فاسدة ، وانما أفسد طوال حياته ، أفسده تعليم متردي لا يعلي من قيمة العقل ولا يشكل وعيه النقدي ليس تجاه المضمون المقدم في وسائل الاعلام فقط بل تجاه نظرته لنفسه ولمجتمعه ، أفسده اضطراب وتشوه القيم المجتمعيه واختلاطها ، أفسدت ذوقه شاشة سينما عنيفة لا تقدم سوى مشاهد الدم والرقص ، أفسده غناء رديء ، أفسده قبح منتشر في شوارعنا.
و في النهاية نتصالح مع كل هذا الفساد ونردد الكليشيه العظيم الآخر : “الاعلام رسالة وعلى وسائل الاعلام أن ترتقي بذوق المشاهد !”.
كيف ترتقي والمشاهد يعاني من كل هذا التشوه تعليميا واجتماعيا وثقافيا ؟! .
عزيزي الباز حنانيك على الجمهور ، فالناس على دين وسائل اعلامهم ، قبل أن نحاسب فساد ذوقه ، علينا أن نحاسب من تسبب في افساده.
أما عزيزي المشاهد ، فاسمح لي أن أهمس في أذنك وأقول لك : اقفل التليفزيون قليلا … وشغل عقلك.
اقرأ أيضًا: