يقف الكاتب الكبير يسرى الجندى، بما يحمله من مصرية مفرطة، وقدرة على الامتزاج بتاريخ وحاضر هذا الوطن، فى منطقة خاصة، تجعل من الكلمة سلاحا، ومن الرؤية الفنية استشرافا للمستقبل، ومن الحياة رسالة، يتوجب عليه أن يؤديها على أكمل وجه.
يحتفل يسرى الجندى، هذه الأيام بعامه الـ74، فلم نكتف فى حوارنا معه بالحديث عن أعماله فقط، ولكن تطرقنا إلى جوانب إنسانية، لتظهر مشاعر تنازعته بسبب مرض زوجته، ورفيقة دربه، التى يعتبرها أعز إنسان فى حياته.
ورغم مساحة الألم الإنسانى، كعادته لم يخذلنا يسرى الجندى، وسمح لنا بأن نتجول فى عالمه، لننطلق فى رحلة نتنقل خلالها بين الفن والأدب والسياسة، وننهل من رؤيته ما يشبع القارئ، بمزج ما هو خاص بما هو عام، والوقوف على حقيقة المشهد الدرامى، إلى جانب التطلع للمشهد السياسى الحالى، بآراء تحمل توقيع يسرى الجندى.
لديك طقوس خاصة فى عملية الإبداع ككاتب.. فهل لديك طقوس للاحتفال بعيد ميلاد؟
ــ عيد الميلاد يختلف فى خريف العمر، عنه فى سنوات الشباب، وأنا ليس لى طقوس خاصة، ولكن أبنائى دائما ما يتذكرونه، ويحتفلون به معى، ولكن اختلف الأمر هذا العام، لأن مرض زوجتى عكر صفوى، وجعل هذه المناسبة لا تبهجنى، هى شريكة حياتى، ورفيقة دربى لمدة 48 عاما، وهو ما يجعل آلامها تؤلمنى أكثر، وأتمنى لها من قلبى الشفاء العاجل.
بعد هذه الرحلة الطويلة.. هل تشعر بالرضا عما قدمته خلال مشوارك على صعيد الإبداع، وما سر تمسكك بالوظيفة الحكومية؟
ــ أنا راض إلى حد كبير، وبالفعل فأنا عملى فى «الثقافة الجماهيرية»، أخذ منى الكثير، ولكنى لست نادما على ذلك، فلا زلت مؤمنا بأن هذا الجهاز، قادر على أن يعيد عصر النهضة الثقافية فى مصر، إذا تم الاهتمام به، وأعيد النظر بجدية فى وضعه الحالى، ولم تكن قضيتى هى الراتب أبدا، فلم أكن أتقاضى حوافزى، فأنا تعاملت مع هذا المنصب باعتباره مهمة وطنية، ولم أكن أجلس على مكتب، لأنى كنت أدير الثقافة الجماهيرية، من الحديقة المواجهة لمكتبى، وأعتقد أننى ساهمت إسهاما لا بأس به، رغم أنه لا يقارن بإسهامات الرواد، أمثال ألفريد فرج، وحمدى غيث، وحسن عبدالسلام، ولكنى حاولت وهذا شرف لى، والـ25 عاما التى قضيتها فى الوظيفة، لم تكن سنوات عجاف إبداعيا، وقدمت خلالها بعض العروض التى اعتبرت نقلة، مثل «على الزيبق»، إضافة لعروض أخرى فى مسرح الدولة، على مسارح «القومى»، و«الطليعة»، و«الكوميدى»، وأنا راضٍ بشكل عام عما قدمته فى مشوارى.
وهل تعرضت لأى ضغوط من قياداتك بسبب هذه الوظيفة التى أثرت على مسيرتك الإبداعية؟
ــ تعرضت لضغط واحد فقط، حين سافرت إلى قبرص، واصطدمت بلجنة تحمل اسم «الهوية الثقافة»، وكانت تخطط لعمل شبكة للمسرح، تشارك فيها دول غير عربية مثل اليونان، وتركيا، وإسرائيل، ولكنى قاومت هذا التوجه، وكنت مصرا على أن نتبع المسرح العربى، وعندما رجعت إلى مصر، ناديت بإقامة مهرجان عربى للمسرح، وكانت هناك مجموعة تحيط بفاروق حسنى، وزير الثقافة فى ذلك الوقت، وقالوا له أننى ضد «المسرح التجريبى»، فأصدر قرارا بإيقاف مهرجان المسرح العربى، وقامت الدنيا ولم تقعد، فوافق مرغما، ورغم نجاح الدورة الأولى بشكل كبير، لكن الدورة الثانية لم تقم، فخضت حربا وقمت بحملة شرسة ضده، وهنا بدأ يخاطب رئيس الجهاز الذى أعمل به، فهددت بتقديم استقالتى رافضا لى ذراعى، وتم احتواء الأزمة بعدها، ولكنى أعتبر أن هذا الضغط لم يكن شيئا، بجانب ما كان يتعرض له المثقفون الجادون، وما أسفر عنه من تهميش للتيار الوطنى الجاد فى الوسط الثقافى، وتدجين بعض المثقفين وإدخالهم «الحظيرة»، وهو المصطلح الذى انتشر منذ منتصف السبعينيات، وطوال عهد «مبارك»، الذى سعى لإعلاء «الهيافة» والتسطيح، لمسح عقول الناس، وقد نجح بقدر كبير فى هذا الأمر.
وماذا عن الضغوط التى تعرضت لها بخصوص عرض مسرحيتك «ما حدث لليهودى التائه مع المسيح المنتظر»؟
ــ هذه المسرحية اعتبرها الناقد الكبير فاروق عبدالقادر، من أفضل أعمالى، رغم أننى حصلت على جائزة الدولة التشجيعية عن عمل آخر، وأنا أدرك قيمة هذا العمل، فطبيعة الحال أعرف كيف كٌتبت، فقد كتبتها بعد نكسة 1967، وكنت أتأمل أزمتنا، وظللت أطرح أسئلة عن عدونا الحقيقى، واكتشفت أننا فى صدام حضارى، فهم لا يريدون القضاء علينا عسكريا، هم يريدون القضاء علينا حضاريا، وهنا اختمرت فى ذهنى فكرة العمل، فالمسيح المنتظر هو أمريكا، واليهودى التائه هو ذلك الذى يبحث عن وطن، فلجأ للتواطؤ مع الدول الكبرى لاختطاف هذا الوطن، والغريب أنه كلما عرضت هذه المسرحية يتم إيقافها، وكأن هذا العمل يقلق الأجهزة الأمنية بشدة، وكان آخر مرة عام 2007، حينما قٌدمت على مسرح الهناجر لمدة 15 يوما، بعنوان «القضية 2007»، وبموافقة فاروق حسنى، وحققت نجاحا كبيرا دفعهم لإعادة عرضها لمدة 15 يوما أخرى، ولكن تم إيقاف عرضها فجأة بدون سابق إنذار، وقبل هذا القرار مباشرة، جاء ضيوف إلى المسرح، أغلب الظن أن أحدهم كان من السفارة الإسرائيلية، التى تخترق بقوة واقعنا الثقافى، وتردد أن إسرائيل كانت السبب وراء ايقاف مسلسلى «خيبر»، ولا أستبعد هذا، فتلك طبيعتهم التى تضمر العداء حتى لم أحسن إليهم.
لماذا اتجهت فى الفترة الأخيرة للتمويل العربى لإنتاج مسلسلاتك؟
ــ لأنه لم يعد ممكنا أن تنتج مصر أعمالا تاريخية، وحينما تتحمس قناة عربية لإنتاج مسلسل تاريخى من تأليفى، فـ«أهلا وسهلا»، لأنها محطة عربية وليست إسرائيلية، ولكنى الآن رافض لهذا الأمر، فأنا مهموم بعودة التلفزيون المصرى لمكانته، والذى يتم اقصاؤه تماما عن عمد، من قبل القطاع الخاص، حتى تخلو الساحة أمامهم ليفعلوا ما يشاءون، وهو الذى كان بمثابة شبح يؤرقهم، ويفرض عليهم الالتزام بالجودة، بتقديمه لأعمال لن تتكرر.
وماذا لو بقى التليفزيون المصرى على حاله.. فهل توقف أعمالك من أجله؟
ــ ليست قضيتا إنتاج أعمال جديدة لى، فأنا قدمت ما يحفظ قيمتى عند الناس، ولكن قضيتى هى الوضع المؤسف الذى نعيشه، والذى يؤرق بعض الضمائر، منها ضمير عبدالفتاح السيسى، رئيس الجمهورية، الذى أبدى حزنه وأسفه من عدم وجود فن جيد، دون أن يقدم ترجمة حقيقية لذلك، وأنا كتبت عدة مقالات للمهندس إبراهيم محلب، رئيس الوزراء السابق، تحت عنوان «من أطلق الرصاص على التليفزيون المصرى»، وتساءلت كيف تتركونه لقيطا مفلسا، تم تفريغه من كوادره، ومثقلا بالديون، وتحول إلى خرابة كبيرة ومؤلمة، وكيف يحدث هذا فى مرحلة تحول حرجه، وأكدت أنه لو صلح حال التليفزيون المصرى، لانصلح حال الإعلام كله، لكن للأسف هناك مؤامرة مدبرة بعناية للقضاء عليه.
ومن يقف وراء هذه المؤامرة فى رأيك؟
ــ هناك أطراف وجهات عديدة، تريد الساحة خالية أمامهم، فهذا الجهاز كما قيل، ولد عملاقا، وهو كذلك بالفعل، وأذكر حينما شرعت فى كتابة الدراما التلفزيونية، شعرت كأننى أتنازل، وأنا القادم من المسرح الذى أعشقه، لأكتب فى هذا المجال، لكنى وجدت نفسى فى مشكلة، وهى كيف تصل رسالتى إلى كل المستويات، من الرجل البسيط وحتى المثقف، ووجدت أننى أمام تحدٍ كبير، ذلك لأن التليفزيون فى هذا الوقت، كان يحقق المعادلة السليمة للعمل الجيد، وهى ورق جيد، ومخرج جيد، وإنتاج قوى، رغم أن التقنيات ضعيفة، لكن كان هناك إنتاج محترم، وتحمل جيلى تقديم أعمالا قوية ومحترمة، ولكن بعد منتصف السبعينيات، والانفتاح، اختفت القيمة، وحل توحش رأس المال متمثلا فى المنتج، ونجح مخطط القطاع الخاص، فى «جر رجل» التليفزيون، الذى أفلس فنيا وماليا، وتم استبعاد المخرجين والمؤلفين الكبار عن عمد، خضوعا للإعلانات التى أصبحت المحرك الأساسى لكل شىء.
وهل تشعر أنه تم استبعادك أيضا عن عمد؟
ــ لا أتحدث عن نفسى، وكان أمامى البديل كما فى التمويل العربى، أو تعاونى مع منتج مبدع مثل محمد فوزى، وهو ليس دخيلا على المهنة، ولكنى أتحدث عن الشأن العام كله، وأنا أشعر بسعادة، لأنى أختتم حياتى بعملين من أقوى ما كتبت، هما «شجرة الدر»، و«همس الجذور»، فهما مؤشران على أن منحنى الإبداع الخاص بى، لا يزال مرتفعا، وهو أمر يسعدنى.
هل تقصد بهذا أنك اعتزلت الكتابة؟
ــ لا أعرف إذا ما كنت اعتزلت أم لا، فوازع الكتابة لا يعرف أحد متى يأتى، ولكن إحساسى الآن هو انفصالى تماما، فقد أديت دورى، وهذا الواقع ليس ملائما لى، كما أنه ليس بعالمى، ووقتى كله الآن مخصص لزوجتى، كما أكتب مقالة أسبوعية، وإذا أتيحت لى فرصة القراءة، أقرأ قليلا.
وماذا عن مصير عمليك الأخيرين «همس الجذور» و«شجرة الدر»؟
ــ ليست قضيتى، فأنا كبرت فى السن، وقدمت ما أستطيع أن أقدمه، ولى مكانة طيبة، وكانت هناك محاولات من الإنتاج الحكومى لتنفيذهما، ولكن سقط حق قطاع الإنتاج فى العمل، وتوقف الإنتاج الحكومى تماما، وهى جريمة كبرى أن يتوقف الإنتاج بهذا الشكل، جريمة لا يمكن السكوت عليها، والحق أنها مأساة مروعة، أن يترك جهاز الدولة هكذا، وأغلب الظن أن المحيطين بـ«السيسى»، لا يعطونه الصورة الحقيقية، وإلا كان اتخذ قرارا سياسيا لإنقاذ التليفزيون.
أكدت أن إنتاج أعمالك الأخيرة لم يعد يشغلك ولكن هل ما زلت متمسكا بتجسيد سولاف فواخرجى لدور شجرة الدر؟
ــ لا زلت لا أرى سوى سولاف فواخرجى فى هذا الدور، وهو لها منذ البداية، لولا أن المشكلات السياسية انسحبت على سوق الإنتاج، وكانت «سولاف» تعانى لفترة بسبب مواقفها السياسية، فتم ترشيح غادة عبدالرازق، ورضخت صاغرا لهذا الترشيح، وأحمد الله على أن العمل تأجل ولم تجسد هذه الشخصية.
لماذا تقل أعمالك السينمائية مقارنة بأعمالك الأخرى؟
ــ عملت فى السينما مع شخصيات محترمة، أخص بالذكر سعيد مرزوق، ود. سيد عيسى، وأشرف فهمى، رغم أننا اصطدمنا لبعض الوقت؟، لكنى أدركت مبكرا أن فن السينما ليس فن المؤلف، ولكنه ملك المخرج، بخلاف المسرح الذى أعشقه، ولا يزال عشقى الأول، ويؤسفنى الحال الذى وصل إليه الآن.
وما رأيك فى محاولات الفنان أشرف عبدالباقى فى إعادة الروح لخشبة المسرح من جديد؟
ــ هو يتصور أنه يملأ الفراغ، ولكن هذا ليس صحيحا بالمرة، فربما نعتبر محاولته هذه هى اكتشاف لنجوم جديدة، لكن أبدا هذا ليس بمسرح، وأتمنى منه أن يغير هذا المفهوم لدى الناس، ويؤكد أنها «اسكتشات» وليست مسرحا.
ما مدى صحة ما نسب لك بأنك ترى أن الرقابة على المصنفات الفنية تعيش أضعف عصورها؟
ــ صحيح تماما، فالرقابة لم تعد بخطورة الماضى، فهناك ما هو أسوأ من محاذير وتكفير وإهانات، وبعض منابر الإعلام الخاص، تلعب دورا سيئا للغاية فى هذا المجال، إلى جانب بعض مدعى الانتماء للدين، وأذكر أنهم سألوا عبلة الروينى، إذا كان أمل دنقل لا يزال حيا، فهل يتم تكفيره، وأرى أن الإجابة هى بالطبع سيحدث، فحرية الرأى كانت أفضل فى الماضى، عما نحن فيه، وما يحدث من البعض، أسوأ مما تقوم به الرقابة نفسها.
بعيدا عن الفن، لماذا وصفت الرئيس «السيسى» بـ«ناصر» جديد؟ وما رأيك فيما نعيشه الآن؟
ــ وصفته بـ«ناصر» بشكل مجازى، ولكن «ناصر» لن يتكرر، وحينما ظهر عبدالفتاح السيسى، شعرت أنه الحصان الأسود، الذى جاء لينقذنا قبل أن نصطدم بـ«الحيطة»، وهو رجل وطنى، ولكن للأسف هناك شبكة عنكبوتية تحاصره وتقيده، وهم مجموعة الزاحفين من رموز «مبارك»، الذين يحاولون استنساخ عصره، وحاولوا فى البرلمان، رغم أنى متفائل بالعناصر الإيجابية التى ألغت قانون الخدمة المدنية، وأتمنى أن يشكلوا فيما بينهم ائتلافا.
هل تتوقع ثورة جديدة فى المستقبل؟
ــ لا، فالبدائل صعبة ومخيفة، والحسابات معقدة جدا، لكننا فى وضع حرج، وليس من سبيل إلا أن تعيد القيادة السياسية الموجودة، النظر فى الأشياء بشكل عاجل، فكل المحيطين بالقيادة السياسية، ليسوا محل ثقة من الناس، ووجودهم يهدر مصداقية السيسى، وأذكر نصيحة الرئيس المؤقت عدلى منصور للسيسى، حينما قال له «أحسن اختيار مستشاريك»، ولا زلت أؤمن أن هناك أملا ولابد أن يصحح السيسى الأوضاع، ويتخذ موقفا حازما لأن الأمور حاليا سيئة للغاية.