أعترف أنني في العادة أقضي وقتاً طويلا في اختيار عنوان المقال .. ربما أكثر من الوقت الذي أستغرقه في كتابتها في المعتاد! .. الأمر يعود إلي تلك الحمي التي اجتاحت الإعلام مؤخراً.. والتي ندعوها بالترافيك..!
لكن الأمر قد اختلف هذه المرة.. فربما هي المرة الاولي التي لم يستغرق اختيار العنوان سوي لحظات قليلة.. فالموضوع لا يخرج عنه مطلقاً.. إنه مجرد .. كلام جرايد!
يقول صديقي الصحفي القدير “الناس تعاني من أمية إعلامية بالمعني الحرفي للكلمة.. القارئ لا يعرف كيف يستقبل المادة الإعلامية و يحللها ليستخرج الحقيقة منها!!
أسأله في براءة عن فرصة نزاهة الإعلام .. و عن جدوي أن تتعامل مع وسيلة إعلامية وأنت تشك في أنها لا تنقل لك الحقيقة كاملة.. فيبتسم إبتسامة مشفقة.. ثم يستطرد
” لا يوجد إعلام محايد علي ظهر الارض .. الكل متحيز بشكل أو بآخر.. حتي في أكثر الدول ديموقراطية..هناك جريمتان للقتل الأولي في القاهرة والثانية في احدي المحافظات.. لقد قررت أن أنشر خبراً عن الأولي وأتجاهل الثانية ..إذن فقد تحيزت للقاهرة!!”
والواقع أنني أعرف أنه محق بشدة.. بل محق أكثر من اللازم!..يوجد خطأ شهير يقع فيه الباحثون العلميون يدعي bias أو التحيز.. بمعني أن يصبح لديك ميلاً لأحد النتائج المتوقعة من التجربة..إنك تنتظر نتيجة معينة.. الأمر الذي يجعل التجربة كلها تفسد بسهولة!
في الماضي كان القارئ أكثر وعياً.. إنه يعرف جيداً أن الصحف ستكتب ما ترغب السلطة أن يقرأه الناس.. أذكر أن أبي كان يصر علي الإستماع إلي إذاعة “مونت كارلو” الناطقة بالعربية قبل أن يصدق أيا من الأخبار التي يقرأها في الصحف الحكومية.. و حين كنت اسأله عن خبر ما لم يسمعه في تلك الاذاعة بعد.. كان يجيبني بالكلمة الشهيرة.. “ده كلام جرايد”!!
الأمر اختلف مع ظهور الصحف الخاصة .. أو التي نطلق عليها المستقلة.. فقد بدأ القارئ في الثقة في ماتقدمه من أخبار بصورة أكبر من الصحف الحكومية .. و لكنه أغفل أمراً هاماً..!
فالإستقلالية التي إتصفت بها تلك الصحف كانت عن النظام..هذه حقيقة.. ولكنها لم تستقل من أغراض مالكها الشخصية بكل تأكيد!..فقد خرجت تلك الصحف من سيطرة الدولة .. لتدخل تحت سيطرة من نوع اخر .. و هي سيطرة رأس المال!!
الأمر لا يحمل إتهاماً لصحيفة بعينها.. كما أنه لا يتهم الصحفيين بنشر أخبار كاذبة بكل تأكيد.. و لكن التحيز قد يبدو واضحاً عند نشر خبر بعينه في الصفحة الأولي و إهمال اخر تماماً!.. الخبر الأول يخدم مصالح صاحب الجريدة.. بينما لا يهتم هو بالخبر الأخر.. أو ربما يرغب ألا يهتم به أحد!!
لقد أصبحت قراءة الصحف مهمة عسيرة بالفعل.. ينبغي أن تدرك توجه الجريدة أولاً.. قبل أن تبدأ في تلقي الأخبار عبرها.. في الماضي كان إدراك التوجه سهلاً.. أما الأن ..فالأمر ليس بسيطاً بكل تأكيد!
يختتم صديقي كلامه ” عندما تعمل بالصحافة أكثر من نصف عمرك ..ستدرك حقيقة هامة.. أنك ينبغي ألا تصدق أحداً.. حتي جريدتك التي تعمل بها”!
عزيزي القارئ.. لو اقتنعت بما قرأته في هذا المقال.. فهذا يعني أنك ينبغي ألا تصدق هذا الموقع الذي أكتب فيه بسهولة.. كما لا ينبغي أن تصدقني أنا ايضاً.. و هذا يعني أن يطردني رئيس التحرير غير مأسوف علي.. و لذا فأنا أرجوك أن تعتبر كل ما قرأته في الأعلي مجرد.. كلام جرايد!!
.