نحن أمام أول تأليف سينمائي للسيناريست “محمد أمين راضي”، الذي ترسخ اسمه في الدراما التليفزيونية بثلاثة مسلسلات لاقت نجاحا كبيرا عند عرضها، وثاني فيلم من إخراج “كريم السبكي”.
من السهل تنميط الفيلم في إطار سينما البلطجة التي تلقى رواجا سينمائيا لدينا منذ عدة سنوات، وقد يدفع اسم المنتج للمشاهد بهذا الشعور، ولكن الحقيقة ليست بهذه البساطة.
يبدو “محمد أمين راضي” في عمله السينمائي الأول تراجيديًا تمامًا، حيث يجسد مأساة القدر المحتوم، ولكنه مع ذلك ينزع عن شخصيته الرئيسية هالة البطولة ويجعلها تتأرجح على الحد الفاصل ما بين البطولة والانحطاط، فهي حينا تلقى الإعجاب من المشاهدين وحينا لا تلقى إلا الاشمئزاز والتقزز.
وما بين ولادته المشؤومة ونهايته المأساوية، تمتد حياة “رحيم” – قام بدوره “آسر يس” – مليئة بالانقلابات من النقيض للنقيض فنجد فيها المجد حينا والعار حينا آخر، وذلك بحسب ما يتكشف له من ماضي والده الذي سعى للفرار منه حاملا ابنه على ظهره، ولكن الماضي يلحق به ويكشف المستور الذي سعى لإخفائه.
اعتمد “محمد أمين راضي” في كتابته للسيناريو على تقنية التنويعات على موضوع حكائي، مكونا حبكات ثانوية، بحيث تعرض المادة الحكائية عبر مرايا عديدة، وهي حسب استخدامه لطرق السرد السينمائي، تبدو متجاورة حينا ومتناظرة حينا آخر، بحيث لا تفلت تلك التنويعات من الدوران في فلك الموضوع الحكائي الرئيسي، لتعكس رؤى متعددة ومشاعر متباينة. وهي تقنية مستمدة من فن الموسيقى الكلاسيكية.
فتتكرر إشكالية علاقة الابن بأبيه في كل علاقات شخصيات العمل، ويجمعها كلها أن سببها ماضٍ مجهول يتم كشفه فجأة في خضم الأحداث المتلاحقة.
فرحيم يكتشف أن والده المكافح المتدين أدهم (محمود حميدة) بلطجي هارب من القانون نتيجة قتله لبلطجي آخر خلال إحدى المعارك، وأنه تسبب بإهماله لزوجته في وفاتها أثناء ولادتها لرحيم.
وطه (شريف رمزي) كان لتفضيل والده مدرب الملاكمة ناصر عثمان (محمد لطفي) لرحيم عليه في تدريبات الملاكمة، أثره في توتر علاقته بكل من والده ورحيم على حد سواء.
وضابط الشرطة علاء شمس (صبري فواز) تتوتر علاقته بابنه (يوسف عثمان) حين يكتشف الابن بعد خطفه من قبل أدهم، ما يفعله والده من وسائل غير قانونية للسيطرة الأمنية باستخدام البلطجية والمشبوهين.
الجميع يهربون من ماضٍ ما، والجميع يلاحقهم ذلك الماضي ويشكل شخصياتهم ويعيد إنتاج علاقاتهم بالآخرين، ويدفعهم إلى مصائر تراجيدية.
يتزلزل رحيم من انكشاف الغطاء عن ماضي أبيه، فتبدو له كل تعاليم أبيه ونصائحه زيفا وبهتانا، فيندفع في الاتجاه النقيض، ويتحول من بطل إلى مسخ، وحين يتخلى عن بطولته ويتحول من رياضي إلى بلطجي يديره ضابط فاسد، تهجره حبيبته مي (ياسمين رئيس) وتعاقبه بزواجه من غريمه القديم طه، فتقع بدورها في مأساتها الناتجة عن تحول عقابها لحبيبها إلى جريمة في حق ذاتها، فتكشف فلتة لسان لها في ليلة دخلتها، حين تنادى زوجها طه باسم حبيبها رحيم، عن حقيقة مشاعرها.
من رحم هذه الجريمة تتناسل جرائم أخرى، في انشطار تسلسلي يؤدي إلى جرائم اغتصاب وقتل وخطف، يتشوش فيها معنى الإثم والبراءة، فالمجرم بريء، والبريء مجرم، وحيث تتواطأ الضحية مع الجلاد؛ فلكل شخصية دوافعها، وما من شخصية، مهما بلغت جرائمها، لم تلق عطف المشاهد في إحدى حالاتها، فلا شر مطلق ولا خير مطلق.
فطه يلقى التعاطف في عذابه المقيم حين تناديه زوجته باسم رحيم حبيبها القديم، وحين تمنعه نفسها بعد فضه لعذريتها في أول ليلة ليتأكد أن علاقتها برحيم لم تتعد العواطف إلى اللقاء الجسدي، وحتى الضابط علاء، سبب تحول رحيم من بطل إلى مسخ، نتعاطف معه حين يتم خطف ولده من قبل أدهم، ويزداد تعاطفنا معه حين يدرك أن ابنه ينكره بسبب اكتشافه لماضيه.
تحمل الشخصيات رغبة في التطهر الحقيقي أو الشكلي، فأدهم يتخلى عن ماضيه ويهرب، ليس خوفا من العقاب القانوني فقط، ولكن طمعا في حياة طاهرة مطمئنة، ومي ترفض الزواج برحيم حين يتخلى عن حياة الكفاح البسيطة ويندفع في حياة البلطجة، لأنها كانت ترى فيه رمزا لحياة حرة وطاهرة، تمثل النقيض لحياتها تحت رحمة أخيها حنش (وليد فواز) البلطجي/ مرشد البوليس، وطه يتجه إلى إظهار التدين، ليلقى الاحترام الذي فشل أن يتلقاه حتى من والده الذي فضل عليه رحيم، حتى رحيم يبدو اندفاعه في طريق البلطجة مزيجا من خيبة أمله في والده ورغبته في حمايته من بطش الضابط علاء بالموافقة على عمله كمرشد له، فما أن يأمن على والده من بطش الضابط حتى يتراجع عن طريق الجريمة.
تبدو الدوافع معقدة والمسارات مرتبكة، ولا يمكن رد السلوك إلى سبب واحد. فرحيم المضطر للسير في طريق البلطجة شفقة من سجن والده، هو نفسه الذي يغتصب حبيبته المتزوجة، وقد نجد له عذرا في كونه كان تحت تأثير المخدر، ولكنا نحس لوهلة أن مي لم تقاوم الاغتصاب كما ينبغي، حتى لو كان وعيها يرفضه، فإن لا وعيها يتمناه ويستمتع به، وإلا فكيف منعت نفسها عن زوجها، ولم تستطع أن تحمي نفسها من حبيبها؟!
ويأتي الحمل المدنس بابن رحيم ليكلل كل هذه المسارات المشتبكة بتاج من الشوك ويوحد مصائر الشخصيات بحبل من مسد.
فبسببه يتراجع رحيم عن استسلامه لسلطة الضابط الفاسد، بل ويصير هو المهدد له بكشف سره لا العكس، ويعود تائبا لوالده ويتدرب على يد مدربه ليفوز ببطولة تؤمن له مبلغا من المال يبدأ به حياته مع مي التي تسعى لطلب الطلاق من زوجها بالحسنى، وحين تفشل تصرخ في وجهه بحقيقة أن حملها من رحيم لا منه، وبينما يسعى حنش لاستعانة مكانته التي أخذها منه رحيم بمساعدة الضابط، فيقوم بمحاولة تأديب رحيم؛ تأتي الطعنة القاتلة من طه، التي تذكرنا بسهم باريس الذي وجد في كعب أخيل مقتلا.
يعلمنا “محمد أمين راضي” أن الماضي يلقي بظله على مصائر الشخصيات التي لا تملك الفرار من قبضته، وأنه حين تسقط الأقنعة؛ تنشب التراجيديا أنيابها ومخالبها، وليس المصير المأساوي هو القتل الجسدي فقط، بل القتل المعنوي أيضا بكشف الماضي الحقيقي، فأدهم حين يريد الانتقام لقتل ولده رحيم لا ينتقم من طه، بل من الضابط علاء الذي دفع ابنه في طريق الجريمة، ويكون الانتقام بنفس السلاح الذي استخدمه الضابط علاء في الإيقاع بأدهم عند رحيم، فيخطف ابن الضابط ليكشف له عن فساد والده.
إذا انتقلنا إلى الإخراج، نجد أن كريم السبكي قد حافظ على إيقاع سريع للفيلم على الرغم من طوله الملحوظ، وبرع في إخراج مشاهد العنف ومعارك الشوارع وحافظ على سيمترية الأداء في مشاهد مباريات المصارعة.
وقد لوحظ أن مشهد العنف الذي قام به رحيم انتقاما لوالده من حنش، صاحبه صوت الأذان، وهو في ظني تأثر بمشهد قتل زعماء المافيا في فيلم الأب الروحي بينما آل باتشينو في حفل المعمودية في الكنيسة يتعمد كأب روحي، فالجامع بينهما دخول عالم الجريمة في ثوب الطقس الديني، وهو ما تكرر في مشهد اغتصاب رحيم لمي، فالجنس هنا هو صورة من صور العنف المدان.
وفي التمثيل، نجد أن المفاجأة ليست أداء محمود حميدة ولا ياسمين رئيس، فقد أتيا بالمتوقع، أما اللامتوقع فهو أداء شريف رمزي، ووليد فواز، وآسر يس، ومحمد لطفي على التوالي.
فشريف رمزي استطاع بابتسامة الاشمئزاز المرتسمة على شفتيه دائما كمريض الكزاز، أن يعبر عن حالة الحقد التي عليها شخصية طه، وكانت لحظات التعبير بالوجه هي الأفضل، بينما كان وليد فواز في دور حنش إضافة للشخصية التي خالطها وعبر عنها داخليا وخارجيا، ونجد آسر يس قد وصل إلى مرحلة النضج الفني، واستطاع التعبير عن تحولات شخصية رحيم متعددة ومعقدة السلوك، بينما كان محمد لطفي متمكنا دون افتعال من شخصية مدرب الملاكمة.
أما صبري فواز فهو الطاقة التمثيلية الجبارة، التي لها مقدرة تحويل الشخصيات الهامشية والثانوية والنمطية إلى شخصيات مركزية ذات أبعاد وملامح بشرية، فقد استطاع أن يضفي على شخصية الضابط علاء شمس، مفردات إنسانية، ومن يمكنه أن ينسى نظرته الملتاعة لابنه الذي تحاشى احتضانه بعد فك أسره لما تكشف له فساد أبيه؟!
هذا فيلم توفرت له عوامل النجاح تأليفا وإخراجا وتمثيلا.
ولم يبق إلا أن يشاهده الجمهور خارج الصورة الذهنية المسبقة عن أفلام البلطجة.