إن كنت تنوي زيارة حديقة الحيوان لافتراش البطاطين على الأرض والجلوس لاستنشاق الهواء لأنك لا تجد مكاناً آخر للنزهة، فهذا المقال ليس لك، أمَّا وإن كنت ترغب في الذهاب لحديقة الحيوانات من أجل أن تسترجع أجمل ذكريات الطفولة بمشاهدة الحيوانات تلهو في أقفاصها، أولتصوير أولادك وهم يُطعمونها وأخذ الصور السلفي معها، فهذا لم يعد متاحاً الآن كما تتخيَّل أو تتمنى، فأرجو أن تراجع نفسك قبل الإقدام على هذه الزيارة مائة مرة، ببساطة مقالي هذا كما الأرصاد الجوية في تحذيرها للمواطنين بقدوم نوَّة باردة، إذ أحذر كل من يُفَكِّر في زيارة حديقة الحيوانات بالجيزة في أي أجازات رسمية ..
الحديقة موجودة في نفس المكان، ولكنها ليست تلك التي كانت منذ زمن، المشهد من الوهلة الأولى لا يبشر بالخير، إلَّا أنني لا أحب الاستسلام، كتل بشرية تتَّجه نحو بوابة رئيسية لحديقة الحيوان في شارع جامعة القاهرة، الحديقة الأكبر في الشرق الأوسط كلها تستغيث من سلوك عشرات الآلاف من الزائرين، حديقة حيوانات ليست بحديقة حيوانات وإنما كمُولد دون ألعاب أو شارع دون سيارات، الناس يفترشون الأرض بالبطاطين حتى أنك تخاف أن تدهس قدم جالس أو رأس نائم، الأرض مَكسوَّة بقشور اليوسفي والبرتقال وأكياس التسالي وبقايا الطعام المطبوخ !
لا توجد لوحات إرشادية تُعَرَّف الناس موقعهم الحالي، حتى اللوحات المكتوبة إمَّا مطموسة بسبب عوامل المناخ، أو ذو خط صغير إذ يتوجب عليك أن تمشي وسط غابة من الأقدام حتى تصل بمحاذاة اللافتات لقراءة ما تحمله من تعريف !
لا يوجد مرشدون لتسألهم عن وجهتك، فأنت تائه ” واللي يسأل مؤكد سيتوه ” لأن لا أحد يعلم ماذا أين !
لا عمَّال نظافة يرفعون بشكل متواصل فضلات الزائرين فلا صناديق للقمامة، المهملات التي في يدك ستتركها في أي مكان، ولن تحس بتأنيب الضمير لأن الأرض لن ترفض مزيد من القاذورات، فثقافة مرتادي الحديقة لم تؤهلهم لجلب أكياس يجمعون فيها قمامتهم !
باعة جائلون يملؤون الدنيا صخباً ويعوقون حركة المارة بافتراش بضاعتهم في منتصف الطرقات، في ظل وجود قرار بمنع اصطحاب الزوَّار للآلات الموسيقية، ولكن غوغائية هؤلاء أشد وأقوى !
ممرات مليئة بالحُفر، والماء والوحل يفاجئك في نهايات الجسور الخشبية !
الزوار يعطون ظهورهم للحيوانات، إذا حاولت أن تقترب من السور لتشاهد بشكل أوضح وتستأذن الشخص الجالس عنده، فإنه سيرمقك بنظرة متعجبة أو مستاءة أن أزحته عن مكانه وكأنه يملكه !
الحديقة تعتبر من المعالم الأثرية، لمرور 100 عام على إنشائها، بحسب قانون الآثار المصري، إذ أمر بإنشائها الخديوي إسماعيل وافتتحت عام 1891 في عهد الخديوي توفيق، الحديقة التي يبلغ مساحتها 300.000 م2 لا تتوافق تجهيزاتها واستعدادها مع أعداد الزوار المتزايدة في المواسم والأجازات، فالإقبال على الحديقة إقبال شديد وعنيف حد الإيذاء المعنوي للحيوانات وللزوَّار أنفسهم، فلم تعد تصبح وجهة للترفيه والتمتع بالتأمل في مشاهد الحيوانات، لأنه ببساطة لن ترى الحيوانات والطيور من الكتل البشرية التي تصطف بمحاذاة أسوار وأقفاص بيوت الحيوانات !
حتى نوفمبر 2012 لم تكن تأخذ الحيوانات أجازة ولو ليوم واحد للعناية الطبية والراحة والهدوء، فالحديقة تفتح أبوابها طيلة أيام الأسبوع لمدة 121 عاماً من العمل المتواصل، ولكن مؤخراً أصبحت تُغلق الأبواب كل ثلاثاء من كل أسبوع لتقديم الرعاية الطبية لسكَّان الحديقة، ومنحها فرصة الاسترخاء، ولكنهم بالرغم من ذلك محرومون من تلك الأجازة الأسبوعية في العطلات الرسمية والمناسبات مع تضاعف أعداد الوافدين !
وبالرغم أن قرار الإغلاق جاء أيضاً لمنح الفرصة لإجراء الإصلاحات اللازمة ولكي تظهر الحديقة في أفضل أحوالها، إلَّا أن هذا لم أره أيضاً، فهذا الوضع البائس ليس حديثاً، فبالبحث في آراء سابقة على شبكة الإنترنت حتى 2010 على الأقل تجد أن نفس الشكاوى موجودة، فالرائحة الكريهة تنبعث من بيوت الحيوانات، ولون ورائحة مياه بحيرات البجع أشبه بمياه المجاري ويطفو فوق مياهها فضلات الزوار، ومظهر الحيوانات البائس !
من وجهة نظري، أرى أن سعر التذكرة منخفض للغاية فقد كان 3جنيهات حتى سبتمبر 2013، والآن وصل إلى 5 جنيهات، سعر رمزي فقير جداً يسمح لكل من لا يجد مكان للنزهة أن يحمل معه بطاطينه وطعامه ويفترش أرض الحديقة طيلة النهار دون غاية حقيقية بزيارة الحيوانات، القرار الحكومى بزيادة أسعار التذاكر، أو بإعطاء أجازة للحيوانات أيام الثلاثاء، جاء بعد الضغوط التي تمارسها المنظمات الدولية المعنية بالرفق بالحيوان، والتي تقضي بضرورة الحد من تزايد أعداد الزائرين للحدائق لمنع إزعاج الحيوانات، كما قام الاتحاد الدولى لحدائق الحيوان بحرمان مصر من عضويته، لتكرار حوادث نفوق حيوانات حديقة الجيزة، آخرها موت ثلاث دببة، ثم العثور على زرافة مشنوقة.
إنما بعد كل هذه المعاناة، كان كل همي أن أنجو بنفسي وأسرتي إلى مكان يختفي فيه كل هذا القبح، فضحَّيْنا أن نستكشف كل بيوت الحيوانات، ونفر إلى ” المتحف الحيواني “، هناك وكأننا دخلنا أرضاً جديدة، لارتفاع سعر التذكرة المقدَّر بـ ( 10 جنيهات )، ضِعف تذكرة الدخول جعل من أرض المتحف مكان أنظف وأكثر تنظيماً، أبدع للرؤية وجدير بالتضحية للمرور بكل هذا السوء خارجه للوصول إليه، المتحف أنشيء عام 1906، يحوي أكثر من 5000 عينة محنطة، من مختلف أنواع الطيور والثدييات والزواحف، وأهمها تمساح محنَّط منذ أيام القدماء المصريين .
شجرة من المسؤولين وشبكة من المهام ولكن المحصلة واجهة حضارية تتدمَّر، “جوهرة التاج لحدائق الحيوان في أفريقيا” حديقة الحيوانات التي صُمِّمَت بكهوف وجَبَلايات وشلالات وجداول مائية، وبحيرات، وجسور وقناطر خشبية، وحجر أرضية ملون ومرتب بأشكال هندسية بديعة، تتحكم فيه اليوم عين الفوضى ويد الإهمال، الوضع متردٍ باضطراد، لا يشجع أبداً أن يرشِّحها زائر مجرب كمكان للنزهة، ستشعر بالشفقة على الحيوانات أن آل مآلها أن تكون سجينة الإهمال وحبيسة القُبح مهدَّدة بالانقراض ..
من يعرض السلبيات دائماً وأبداً متهم بالتشاؤم ونشر الإحباط ولكن كيف لي وأنا شاهدة عيان أن أتفاءل وقد حضرت حال الحديقة المزري؟! هذا الحال المزري ليس حديثاً وإنما مستمر لسنوات طويلة دون تغيير، سيبقى هذا المقال شاهداً على رصد المأساة، ولكنه لن يتعدَ كونه كلمات على فضاء الإنترنت، حيث لا أحد يقرأ ليغير، ولا مسؤول يتحرك لإنقاذ مظهر حضاري آخذ في التهاوي أمام زحف مليوني زائر سنوياً ..