مع إقتراب ثورة الدباديب التى تملأ الميادين فى نفس هذا الوقت من كل عام ، و مع إنتهاء معرض القاهرة الدولى للكتاب كنت أتجول فى يومه الأخير بين جنبات خيمة سور الأزبكية وسط صخب المنادين الذين يذكروننى بموقف عبود ، بينما أمشى بين الردهات المزدحمة برائحة الكتب ، إستوقفنى نداء خاص جداً لرجل ثلاثينى فى ريعان شبابه ينادى بكل ما أوتى من قوة ” مجلات قديمة ” ، ” إعرف مصر أيام الملك ” ساقتنى قدماى ناحيته دون إرادة منى فوجدت آلة الزمن و بواباتها مرسومة على الورق ، بإمكانك أن تسافر إلى مصر أخرى لا تعرفها و تفاصيل حيكت و كتبت حتى قبل مولدك ، وددت لو طالبت الرجل بأن يلتزم الصمت إحتراماً و إجلالاً لكل ما تحويه تلك المجلات من كلمات يعود بعضها إلى قبل مائة عام من الآن تحت عنوان ” اللطائف ” وغيرها الكثير من المجلات الأخرى وقفت مدهوشة فى حضرة هذه الصحف و المجلات العتيقة أنظر فى صمت ، لم أعد أشعر بكل ما يدور حولى من صخب و شعرت و كأن هذه المجلات ابتلعتنى داخلها فقابلت طه حسين و مصطفى النحاس و يوسف السباعى و غيرهم الكثيرين .
تأملت النساء الجميلات فوق الأغلفة دون الحاجة لحقنة بوتوكس أو فيلر أو سيليكون حتى تكتمل أنوثتهن ، نظرت إلىّ إحدى السيدات من فوق غلاف مجلة بعنوان مسامرات الجيب و كأنها تستجدينى أن أخلصها من صخب البائع و ثرثرته التى لا تنتهى ، أمسكت بها و سألت عن ثمنها ثم إحتضنتها و غادرت ، عند عودتى إلى منزلى كانت دقات قلبى تتسارع بينما تكاد كلماتها تقفز من بين الصفحات متوسلة إياى كى أقرأها ، أخرجتها من الحقيبة و تلمست أوراقها المطبوعة قبل تسع و ستين عاماً كاملة ثم بدأت الرحلة ، كانت رحلة فى عشق مصر تلك التى لم تعد كما كانت قبل تسع و ستين سنة ، طالعت مقالات أقل ما يمكن أن يقال عنها هو أنها بديعة الصنع تفوح برائحة هذا الزمن الجميل ، لفت نظرى ما جاء فى بريد المجلة ، رسالة من أحد القراء بعنوان ” هل أنا فى مصر ” يشكو صاحب الرسالة من شعور الغربة الذى يتملكه عند ذهابه لميدان سليمان باشا أو شارع فؤاد أو شارع قصر النيل و يقول أنه لا يشعر أنه فى مصر أو فى القاهرة ، يرصد الواقع بكل دقة فيروى أنه سمع كل اللهجات و كل اللغات حتى نداء بائع الجرائد الفرنسى أو الإنجليزى أو الأرمنى و يشكو من أنه لا يكاد يسمع لغته على الإطلاق و يصف كيف أنه صار يخجل من إرتداؤه للطربوش فى حين أن الجميع يرتدون القبعات الإنجليزية و أن الفتاه التى تبيعه تذاكر السينما فتاة شقراء غير مصرية ، بعد أن انتهيت من القراءة كان صوت بائع العسل و الطحينة أسفل منزلى كفيل بأن يعيدنى مرة أخرى إلى مصر اليوم و التى لربما لو كان صاحب تلك الرسالة قد عاش فيها لكان ممتناً جداً من صيحات الباعة بالفرنسية و غيرها من اللغات ، عندما كانت مصر مجتمع متناغم من الحب و العشق و قبول الآخر يعيش فيه الكل فى سلام دون خوف أو ريبة أو تفتيش فى النوايا ، حدث هذا قبل أن يطل عيد الحب بعدة أيام ففاض الحب على أوراقى و قلبى و أمسكت بنفسى متلبسة و أنا أردد ” هابى فلانتين يا مصر ”
اقرأ أيضًا: