ربما لم تعرف الصحافة المصرية والعربية على الإطلاق كاتبا صحفيا واصل مسيرة حافلة بالعطاء على مدى 7 عقود ونيف، مثل الأستاذ محمد حسنين هيكل الذي رحل عن عالمنا يوم الأربعاء 17 فبراير 2016، بعد 92 عاما قضاها على ظهر البسيطة.
فالأستاذ، وهو لقب بظني أنه استحقه عن جدارة، امتهن حرفتنا القاسية منذ سنوات الشباب الأولى، وواصل على الدرب حتى أسابيع قليلة قبل أن يأتي أمر ربه.. أكثر من 70 عاما من العمل الصحفي والتأليف وسرد أحداث تاريخية غيرت في كثير من الأحيان مجريات الزمن؛ مرة من وجهة نظر مشارك فيها، ومرات أخرى عديدة بعين الراصد النافذ إلى مصادر المعلومات بصورة غير مسبوقة.
الخلافات حول الرجل لا تحصى، وهذا سر تميزه، فبدءًا من موقفه من الرئيس السادات وحتى مراحل الصعود والهبوط في عهد الرئيس مبارك أو من جاء بعده من رؤساء، اختلف عليه الكثيرون، لكنه نال احترام كل من تحدث عنه، فالتباين ارتكز في أساسه على المنظور السياسي، ونادرا ما تمحور حول المهنية.
فالمتفحص لمسيرته المهنية، يجد أنها زاخرة بالتطورات المتلاحقة، فقد تدرج الراحل في عدد من المؤسسات الصحفية العريقة، من “آخر ساعة” إلى “أخبار اليوم” وصولا لـ”الأهرام”، وما بينهم جميعا، علاوة على ظهوره الخاص على قناة الجزيرة القطرية، وقناة “سي بي سي” منذ شتاء 2012.
سنوات ممتدة قضاها الأستاذ في محراب صاحبة الجلالة، عابدا يمارس المناسك الصحفية، وإماما يأتم به أبناء المهنة ممن تتلمذوا على يديه، استطاع خلالها تأسيس مدرسة صحفية أُسميها “مدرسة النافذية”، فسرد المعلومات التي لا تحصى والذاكرة الفولاذية المحتفظة بأدق تفاصيل الأحداث التي عاصرها، بجانب شبكة العلاقات العنكبوتية التي تجمع بين خيوطها أبرز سياسيّ العالم من ملوك ورؤساء وزعماء معارضة وعلماء ومؤرخين، كل ذلك يدعم نافذية الأستاذ، خاصة وأنه في كثير من الأحيان يستخدم لفظة “صديقي” قبل ذكر اسماء ملوك ورؤساء..
نادرا ما قال هيكل إنه لا يملك معلومات، بل ربما كان على اطلاع بخفايا أحداث لم تمتلك أجهزة مخابرات معلومات عنها، ولم لا وقد كان الرجل يؤمن بأن الصحفي الحق هو ذلك الذي يجوب مناطق الصراع ويعيش الأحداث تحت مسمى “مخبر صحفي”، وبالتأكيد ليس المقصود المعنى الأمني للكلمة، ولكن الشق المعلوماتي منها.
هذه النافذية أهلت الأستاذ ليكون ملهما لأجيال من الصحفيين، اختلفنا عليهم أو اتفقنا معهم، أجيال ربما لم يظهر منها من هو قادر على مسيارته، بل إن منهم من انحرف عن جادة الصواب الصحفي، ومنهم من صنع “هالة مقدسة” على شخص الرجل أو حتى على نفسه!
لسنوات ليست بالقليلة في المهنة، لم أحظ بفرصة للقاء الأستاذ، لكني حرصت على قراءته ومتابعته، سواء بعض المقالات التي كتبها على مدى سنوات حياته المهنية وحتى مرحلة “الاستئذان في الإنصراف” عام 2003، ومن بعدها طلته المميزة على “الجزيرة”، والتي كانت أشبه برحلة غوص في تاريخ لم أعاصره.
ورغم سنه الطاعن خلال الخمسة عشر عاما الماضية، إلا أن الأستاذ أبى أن يتوقف مداد قلمه عن الكتابة أو عدم البوح بما يملكه من معلومات وتفاصيل. حتى في أعقاب ثورة يناير لم يمتنع هيكل عن الحديث عن “مستقبل” مصر، رغم أن البعض تهكم على إقحامه في أتون تلك الفترة التي شهدت صراعات على الحكم بين إسلاميين وعسكريين ونخب مدنية، وقيل إنها مختلفة عن الصراعات الكلاسيكية التي عايشها هيكل واكتسب خبراته منها. لكن الواقع أثبت أن الصراع على السلطة في مصر تقليدي حتى النخاع، ويسير على كلاسيكيته المعهودة.
وبمقارنة عابرة بين جيل هيكل من الصحفيين وجيلنا الحالي، يتضح أنه رغم توافر وسائل الاتصال الحديثة التي يمكن للصحفي من خلالها معرفة تفاصيل أصغر حادث في قرية بصعيد مصر خلال ثوانٍ معدودة، إلا أنني أجد نفسي مرغما على القول إن فئة غير قليلة من أبناء جيلي يخالفون ضمير المهنة، ويدنسون الشرف الإعلامي، سواء تحت مبرر “الترافيك” والرغبة في زيادة عدد مرات قراءة الخبر أو مشاهدة التقرير التلفزيوني، أو بدعوى نقص المعلومات. ولا أقول هنا إن جيل هيكل ملائكي، أو أن منهم من لم يخالف ضمير المهنة، ولا حتى هيكل نفسه، فالمؤكد أن بحثا علميا دقيقا سيجد أن هيكل لم يلتزم حياديته كصحفي طيلة حياته، بل أقولها “بصراحة” إن الجانب غير الإيجابي في شخصية هيكل أنه اخترق السياسة وبات في كثير من مواقفها عنصرا فاعلا فيها، وليس مجرد صحفيا ينقل كواليسها.
إن أزمة الصحافة في مصر بل وعالمنا العربي، أنها تحولت من مهنة نقل الوقائع إلى حرفة صُنع الأحداث، تبدل كثير من الصحفيين من كونهم باحثين عن الحقيقة بغية نشرها، إلى متتبعين لعورات الساسة والمشاهير، وبدلا من أن نقدم للمتلقي حزمة من المعارف والنقد الموضوعي للسياسات، انحرف كثير من وسائل الإعلام عن مسارها المخطوط لها، لتكون أبواقا لسلطة أو جماعة أو حزب، أو حتى رجل أعمال.
.