فى آخر اليوم الطويل قال كلمته ومضى.. فى آخر اليوم الطويل تأكدت أسطورته
الحياة عنده متابعة حركة الأحداث وما خلفها وقراءة المستقبل وما قد يحدث فيه
حتى لحظاته الأخيرة ظل مخلصًا لمهنته التى لم يرَ لنفسه مهنة سواها والخبر الصحفى جوهرها
هو مدرسة كاملة لا مثيل لانضباطها فى تنظيم الوقت وتوزيع الجهد فيما يتيح له أوسع إطلالة على وطنه وإقليمه وعالمه وأن ينتج أفضل ما عنده
لا توجد أمة تحترم نفسها تسأل مواهبها الاستثنائية عندما يتقدم بها العمر أن تصمت وهى تستطيع أن تتكلم
لم يكن يريد أن تكون جنازته عسكرية على ما أخبر الرئيس فى لقاء ضمهما فى قصر «الاتحادية» قبل أن يداهمه المرض الأخير
فى اختيار مسجد الحسين نزعة صوفية رغم ثقافته المدنية.. وفى اختيار الحى انحياز لعراقة التاريخ والمكان الذى ولد فيه
قبل أن يداهمه المرض بيوم واحد استنكر بكل وجدانه الادعاء بأنه اخترع زعيم ثورة يوليو
طلب من الرئيس الإفراج عن الشباب الموقوفين وفق قانون التظاهر وفى الطلب انحياز إلى المستقبل ودعوة إلى صفحة جديدة
وهو على سرير المرض الشديد حاول أن يستدعى أسلحته التقليدية فى معنى الحياة.
الحياة عنده متابعة حركة الأحداث وما خلفها وقراءة المستقبل وما قد يحدث فيه.
أن يكون حاضرا فى قلب المشهد كصحفى قبل أى شىء آخر وكمواطن يعنيه المستقبل قبل الماضى وحساباته.
بادرنى بسؤال واحد: «قل لى ما الذى يحدث؟».
جلست على مقعد بجوار سريره أروى وأتحدث وهو منتبه للمعانى من وراء الأخبار ولا يخفى قلقه على مستقبل البلد ومصيره.
على مقربة من سريره كتب غربية صدرت حديثا شرع فى قراءتها وبعض الجرائد اليومية المصرية وشاشة التليفزيون مفتوحة على محطة الـ«C.N.N» الإخبارية ذائعة الصيت.
فى غرفة نومه تبدت شخصيته، فكل شىء بسيط وذوقه رفيع.
من حين لآخر تدخل السيدة قرينته «هدايت تيمور» تطمئن على تناوله الدواء وتسأل عما إذا كان هناك شىء يطلبه.
قلت له: «إنها ملاكك الحارس يا أستاذ هيكل».
كانت تخشى من إنهاك الحديث وهو يريد أن يدقق فى المعلومات، يسأل فى الخلفيات ويستقصى الأبعاد.
حتى لحظاته الأخيرة ظل مخلصا لمهنته التى لم ير لنفسه مهنة سواها والخبر الصحفى جوهرها.
حاول أن يتحدث ويعلق ويحلل كما اعتاد على مدى حياته العامة الطويلة، غير أن إنهاك المرض عانده بقسوة.
استأذنته أن الوقت حان للتفكير فى «تنظيم الطاقة الإنسانية».
أن يتخفف من بعض الأعباء واللقاءات وشواغل العمل اليومى دون أن يغيب عن الساحة وإبداء الرأى فيما يجرى عليها من تفاعلات وحوادث.
لم أشر إلى معاناته فى علاج الفشل الكلوى الذى ألم به قبل أيام ولا لما يستنزفه العلاج من طاقة العمل التى اعتادها.
علت ابتسامة خفيفة على وجهه: «لماذا التنظيم؟».. «سوف أمتنع عن أى نشاط وكل حضور حفاظا على صورتى».
ربما خامرته فكرة أن وقت الرحيل قد حان وكأنه رسم خطا فى فضاء الغرفة:«هنا النهاية».
لم تكن قضيته المرض ولا شدته، فسجله طويل فى تحمل الآلم.
من عباراته: «أنا لا أخفى سنى ولا مرضى».
هذه المرة استشعر بعمق أن طاقته الإنسانية استنزفت إلى حد يصعب معه أن يحيا بالأسلوب الذى انتهجه فى العمل والإنتاج والتأثير شاهدا وشريكا فى الأحداث والتحولات الكبرى التى شهدتها مصر منذ ثورة (١٩٥٢) بجوار زعيمها «جمال عبدالناصر» وما بعده من انقلابات دراماتيكية.
معنى الحياة انتهى عند رجل يدرك فلسفة الوجود الإنسانى وقيمة كل دقيقة فى وضع بصمة أو التأثير فى حركة.
هو مدرسة كاملة لا مثيل لانضباطها فى تنظيم الوقت وتوزيع الجهد فيما يتيح له أوسع إطلالة على وطنه وإقليمه وعالمه وأن ينتج أفضل ما عنده.
كل شىء مرتب بدقة، مواعيده وأوراقه ووثائقه.
لا يهدر وقتا فيما لا طائل منه والحياة بلا دور كأنها موت مؤجل.
فى اللقاء الأخير تَبَدًّت كبرياؤه الفريدة فى مواجهة المرض، يريد أن يعتمد على نفسه ولا يطلب مساعدة من أحد، لا يشتكى ويواجه قدره بشجاعة الاختيار.
يدرك أكثر من غيره حقائق الحياة وعدد السنين.
ذات مرة قال: «ربما أكون تلكأت على المسرح».
كانت العبارة قاسية من رجل وهبه الله الهمة العالية إلى الثانية والتسعين من عمره.
قلت: «أرجوك لا تقل ذلك مرة أخرى يا أستاذ هيكل»
لا توجد أمة تحترم نفسها تسأل مواهبها الاستثنائية عندما يتقدم بها العمر أن تصمت وهى تستطيع أن تتكلم.
«إذا لم أتكلم أنا، فمن يتكلم؟!» حسب بيت شعر شهير للمسرحى البريطانى الأعظم «وليم شكسبير».
لم يطلب أحد فى الولايات المتحدة أن يتوقف وزير الخارجية الأسبق «هنرى كيسنجر» عن الكلام مادام يستطيع أن يتكلم معلقا على السياسات الدولية الجارية.
الرجلان الاستراتيجيان، على خلافات الرؤى العميقة، من مواليد العام نفسه (١٩٢٣)، «كيسنجر» ولد فى مارس و«هيكل» فى سبتمبر.
هناك فارق جوهرى بين تولى المناصب التنفيذية ــ وحساب السنين هنا ضرورى لتجديد الدماء ــ وبين عمق العطاء الفكرى، وحساب القدرة الذهنية له الاعتبار الأول والأخير.
كان الأستاذ «هيكل» حتى أيامه الأخيرة قادرا على أن ينظر حوله، يتابع ما يجرى من الداخل ويؤثر فيما حوله كـ«مرجعية» لها وزنها التاريخى ونفاذ نظرتها.
تختلف أو تتفق معه ليست هذه هى القضية.
القضية أنك لا تستطيع أن تتجاهل ما يقول.
الأمر نفسه جسده الفيلسوف البريطانى «برتراندرسل» فى تسعينيات عمره.
ففى هذه السن المتأخرة تبدت «قوة الضمير العام» فى مناظراته التى انتصف فيها للضحايا الفيتناميين ضد همجية آلة الحرب الأمريكية وألهم أجيالا جديدة نبل الموقف.
الادعاء بأن للفكر عمرا هو الجهل بعينه واستعجال الرحيل هو خروج عن كل قيمة إنسانية.
فالله وحده هو الذى يعطى الهمة والعمر.
ولا أحد يخلف أحدا، ولا أحد امتداد لآخر.
لكل تجربة إنسانية أو سياسية أو مهنية مسارها الخاص.
لم يخلف أحد «طه حسين» ولا كان لدينا «نجيب محفوظ» آخر.
قال ضاحكا: «ولا نجيب ريحانى آخر».
قيمة القامات الكبرى فى السياسة والصحافة والفكر والأدب والفن فيما تتركه من مدارس تفكير.
فى حواره التليفزيونى الأخير أعرب عن قلقه من أن نكون «على حافة الخروج من التاريخ».
تحدث عن غياب البوصلة السياسية، وتعرض لهجوم اعتاده طوال حياته.
لم يكن يهتم كثيرا بأية حملات ضده محتذيا الحكمة الصينية: «قل كلمتك وامش».
قال ما كان مقتنعا به، فهو غير مطمئن على أننا فى الطريق الصحيح، يرى مكامن الأخطار ويدعو إلى سد ثغراتها.
فى مرضه الأخير اتصل به الرئيس «عبدالفتاح السيسى» لمرات عديدة كلما كان بقدرة «الأستاذ» أن يتحدث.
عرض نقله إلى المركز الطبى العالمى على طريق الإسماعيلية لتلقى العلاج.
وهو لم يكن يريد أى علاج على نفقة الدولة أو فى أحد مستشفياتها.
بذات القدر فإنه لم يكن يريد أن تكون جنازته عسكرية على ما أخبر الرئيس فى لقاء ضمهما فى قصر «الاتحادية» قبل أن يداهمه المرض الأخير.
قال بما هو نصه: «أنت لا تملك لى سوى أن تأمر بجنازة عسكرية، وأنا لا أريد مثل هذه الجنازات».
فى الكلام مودة إنسانية غير أنها لم تمنعه من أن يسجل عدم رضاه عن مستوى الأداء السياسى العام الذى يراه مزعجا ومنذرا.
رحلة المرض الأخير قصيرة ومتسارعة.
فى الأسبوع الثانى من يناير فوجئ القاهريون بيوم عاصف ومترب.
رجوته ألا يذهب إلى مزرعته فى «برقاش» حسب تخطيطه المسبق وأن يؤجل زيارته لوقت آخر خشية أن يتعرض لنزلة برد فى جوها المفتوح.
كانت الساعة التاسعة صباحا.
قال لى ضاحكا: «أنا الآن على مقربة من القرية الذكية وبعد دقائق سوف أكون فى برقاش».
وكانت برفقته السيدة قرينته.
فى المساء قال لى هاتفيا: «يبدو أنه كان لديك حق، فالطقس كان سيئا للغاية».
بعد ساعات انتابته أزمة فى الرئة استدعت نقله إلى أحد مستشفيات مدينة أكتوبر.
لم يكن مرتاحا للبقاء فى المستشفى وألح على عودته إلى منزله فى الجيزة.
غير أن مصاعب صحية جديدة استدعت نقله مجددا لمستشفى آخر فى حى الدقى.
مرة أخرى طلب سرعة العودة للمنزل.
مانع فى أى فكرة لعودة ثالثة إلى أى مستشفى.
مانع بصورة مطلقة لم يكن ممكنا المساجلة فيها.
بدا متأهبا نفسيا للرحيل.
أراد أن يموت على سريره، أن يواجه قدره بلا وسائل اصطناعية للحياة.
توقف عن تناول الدواء وغسيل الكلى.
لم يكن يريد أن تكون نهايته كـ«ونستون تشرشل»، الزعيم البريطانى الأشهر الذى قاد بلاده إلى النصر فى الحرب العالمية الثانية، رجلا يثير الشفقة على ما وصل إليه بأثر تقدم العمر وأمراضه.
الرئيس الفرنسى الأسبق فرانسوا ميتران
بدا أقرب إلى تفكير صديقه «فرانسوا ميتران»، الرئيس الفرنسى الاشتراكى الذى حكم بلاده أربعة عشر عاما متصلة، رجلا يقرر الرحيل عندما تعجز طاقته وتفتر همته.
بحسب رواية منقولة عن أمين عام رئاسة الجمهورية على عهد الرئيس الأسبق «حسنى مبارك» فإن «ميتران» فى زيارته الأخيرة لأسوان التى اعتاد القدوم إليها فى احتفالات رأس السنة، استقل سيارته وذهب حيث يتصل الأفق بالصحراء، نظر أمامه طويلا، وعندما عاد كان قد قرر الامتناع عن تناول أية أدوية وأن تكون النهاية الآن.
كتب وصيته قبل أن يدلف إلى القرن الحادى والعشرين وتركها فى ثمانى صفحات وديعة مغلقة عند رفيقة حياته.
بعض ما فى وصيته خضع للتعديل فى السنوات التالية.
لم يتوقع أحد أن يوصى بالصلاة على جثمانه فى مسجد الحسين ولا أحد كان يعرف حتى فتحت وصيته.
فى اختيار المسجد نزعة صوفية رغم ثقافته المدنية.
وفى اختيار الحى انحياز لعراقة التاريخ والمكان الذى ولد فيه.
قصة مقبرته قضية أخرى.
فى مطلع السبعينيات، بعد رحيل «جمال عبدالناصر» فى الثانية والخمسين، خطر له مع صديقيه المقربين«سيد مرعى» الذى تولى رئاسة مجلس الشعب و«عزيز صدقى» الذى صعد لمنصب رئيس الوزراء أن يسارعوا بشراء مقابر عائلية بحى مصر الجديدة، فربما يأتى الموت مبكرا كما داهم «عبدالناصر» على غير انتظار.
غير أنه بدواعى ارتباطه العاطفى بمزرعة «برقاش» شرع فى بناء مقبرة على أطرافها تتداخل مع مقابر القرية أطلق عليها «دار البقاء».
ثم أعاد التفكير فى اختياره خشية أن تكون مقبرته على أطراف المزرعة عبئا على أحفاده عائدا إلى اختياره القديم الذى أطلق عليه «دار العودة».
من مفارقات الحياة والموت أنه على مدى النظر من المكان الذى دفن فيه مقابر أخرى لجنود دول الكومنولث التى حاربت تحت العلم البريطانى فى الحرب العالمية الثانية.
فقد كانت بدايته المهنية تغطية وقائع المواجهات العسكرية فى صحراء العلمين عام (١٩٤٢) لـ«الإيجيبشيان جازيت» أول صحيفة عمل بها.
تبقت فى ذاكرته تجربة العلمين كنقش على حجر.
لم يكن أقرب الصحفيين إلى رجل يوليو القوى «جمال عبدالناصر».
تعارفا على خطوط النار، مقاتل يحارب وصحفى يغطى حرب فلسطين، غير أن العلاقة لم تأخذ مدارها الحقيقى إلا فى مارس (١٩٥٣) حيث صاغ رؤية القائد الشاب لأفق التغيير على صفحات مجلة «آخر ساعة» التى يترأس تحريرها.
كانت هذه «فلسفة الثورة» أولى وثائق يوليو.
عند هذه اللحظة الفارقة فى تجربته الطويلة فرض حول نفسه حواجز منيعة، بتعبيره هو «ستائر كثيفة»، لا ينقل لأحد آخر حرفا واحدا مما يدور مع «عبدالناصر» من حوارات مسهبة فى السياسات العليا تستند على صميم المعلومات.
«هل تعرف ما هو الكتاب الذى أشعر بالفخر أننى كتبته؟».
أجاب بنفسه: «لمصر لا لعبدالناصر».
قبل أن يداهمه المرض بيوم واحد استنكر بكل وجدانه الادعاء بأنه اخترع زعيم ثورة يوليو.
قال: «جمال عبدالناصر؟».
أردف استنكاره ببيت شعر وهو رجل يحفظ الشعر ويستدعيه فى كل مقام: «هانت حتى بالت عليها الثعالب».
علاقته بـ«عبدالناصر» موضوع سجال طويل عن المثقف والسلطة.
كان من رأى المفكر الفلسطينى الراحل «إدوارد سعيد»: «إن المثقف يكف عن أن يكون مثقفا إذا اقترب من السلطة».
سألت البروفسير «سعيد» فى منتصف التسعينيات من القرن الماضى: «حتى أندريه مالرو أبرز المثقفين الفرنسيين الذين قاوموا الاحتلال النازى قبل أن يعمل بعد التحرير وزيرا للثقافة بجوار الجنرال شارل ديجول؟».
رد: «حتى أندريه مالرو».
سألته مرة أخرى: «الأمر ينصرف بنفس المنطق إلى صديقك المقرب هيكل».
أجاب: «نعم».
لم يكن الأستاذ «محمد حسنين هيكل» مقتنعا بهذه القطعية فى تعريف العلاقة بين المثقف والسلطة، فـ«مالرو صديق ديجول قبل السلطة ولا يعقل أن يقطع علاقته به ما إن وصل إليها حتى يحتفظ بصفة المثقف وقد خدم الثقافة الفرنسية كما لم يخدمها أحد آخر، كما أن علاقتى بعبدالناصر مسألة أفكار ورؤى وأحلام أمة فى لحظة تحديات كبرى وتحولات عاصفة وواجبى قبل أى شىء آخر يحتم أن أساعد بقدر ما أستطيع».
فى حوار بين الرجلين على مائدة إفطار فى منزل «هيكل» على نيل الجيزة أبدى «سعيد» تفهما لتعقيدات التعريف ومزالق التعسف فيه.
فى أية تجربة إنسانية فإن اختبار الزمن يكشف وينير.. كيف تكون المواقف وأين تتبدى الخيارات؟
كان الاختبار الأول فى حقبة «أنور السادات»، ناصره فى البداية قبل أن تتباعد الطرق، ولم تكن المسألة شخصية.
غادر «الأهرام» التى جعل منها واحدة من أهم عشر صحف فى العالم: «إذا بقيت كنت سوف آخسر نفسى بالدفاع عن سياسة لا أقتنع بها».
قال للسيدة زوجته بعد لقاء عاصف فى بيت الرئيس على مشهد من أصدقاء مشتركين: «تأكدى أن الموقف الأخلاقى سوف ينتصر فى النهاية».
فى هذا اللقاء العائلى تحدث «السادات» لأول مرة عن رهانه الكامل على الولايات المتحدة وأنها تملك (٩٩٪) من أوراق اللعبة.
بقدر ما كان دوره مؤثرا فى صياغة مشروع «عبدالناصر» فإن نقده للإدارة السياسية لحرب أكتوبر لعب دورا جوهريا فى لفت الانتباه العام إلى مخاطر خيارات «السادات» وأثرها الفادح على تهميش الدور المصرى فى محيطه وعالمه.
بابتعاده عن السلطة سقطت الحواجز كلها وتأكد ما كان يعتقد فيه أن الصحفى أقوى من السياسى.
تصور «السادات» أن خروجه من «الأهرام» حكم بالإعدام المهنى على صديقه السابق.
عندما حاور «هيكل» «آية الله الخمينى» فى باريس عشية الثورة الإيرانية طلب «السادات» من صديقهما المشترك «سيد مرعى» أن يسأل «هيكل»: «بأية صفة حاوره؟».
كانت إجابته: «قل له بصفتى صحفيا».
نصحه «مرعى» وهما بملابس البحر على شاطئ «المنتزه» بعيدا عن أية آذان تسمع: «خد بالك يا محمد.. لن يتركك».
ولم يكن غريبا أن يدخل سجونه فى اعتقالات سبتمبر الشهيرة التى سبقت مباشرة حادثة المنصة.
لا هو رجل كل العصور ولا هو صديق كل الرؤساء على ما تقول الحملات الممنهجة عليه.
عارض علنا «مشروع التوريث» من فوق منصة الجامعة الأمريكية بالقاهرة فى خريف (٢٠٠٢) حيث لم يكن أحدا باستثناء مجموعة من الصحفيين الشبان فى جريدة «العربى» مستعدا للاقتراب من الملف أو الحديث فيه.
واصل مناهضته لحكم «مبارك» بلا تردد أو انقطاع وتعرض لحملات تشهير عرض خلالها كل من يطلب قربا من السلطان خدماته.
ورغم أية ادعاءات عن مهادنته لحكم الإخوان فإنه هو من صاغ الأفكار الرئيسية فى بيان (٣) يوليو الذى عزل الرئيس الأسبق «محمد مرسى».
كصحفى فهو مستعد أن يلتقى جميع اللاعبين السياسيين«باستثناء الإسرائيليين».
من طبيعة المهنة استقصاء المعلومات من مصادرها قبل وضعها فى سياق وتحليل ورؤية.
فى رحلة مهنية وسياسية امتدت لأكثر من سبعة عقود فإنه من الطبيعى أن تتناقض القراءات والمواقف غير أن هذا شىء والتشويه المتعمد شىء آخر تماما.
لا يمكن قراءة التاريخ المصرى المعاصر بدون توقف جدى أمام أدواره وإسهاماته.
هو مفكر استراتيجى وأطروحاته فى الأمن القومى مدرسة كاملة يتعلم عليها العسكريون والدبلوماسيون المصريون.
وهو مهنى من طراز فريد وصفته «الواشنطن بوست» عند نهاية القرن العشرين أنه «أفضل صحفى فى العالم خلال هذا القرن».
بدت قبل سنوات طويلة مديرة التدريب فى وكالة «رويترز» وهى تقدمه لإلقاء محاضرة فى جامعة «أكسفورد» متأثرة بأن تراه أمامها: «أكاد لا أصدق أننى أقف أمام الأسطورة الحية».
لا يولد شىء من فراغ ولا قيمة تتأسس على إدعاء.
سألنى ذات مرة: «ما العبقرية؟».
لم يكن يتحدث عن نفسه لكن إجابته أوحت برؤيته.
اعتمادا على تعريف مفكر هولندى معاصر فإن العبقرية تعنى: «الاتقان فى التقنية وشىء ما آخر».
التقنية المتقنة من ضرورات أية مهنة لكنها وحدها محض «صنعة» لا إبداع فيها.
شیء ما آخر يضفى على المواهب استثنائيتها.
عبقريته فى أسلوب عمله ونظام حياته.
شاغله الأول هو الخبر فـ«لا قيمة لأى تحليل سياسى ما لم يستند إلى معلومات مدققة».
بعض الذين حاولوا أن ينالوا منه كرروا فيما يشبه المحفوظات أن العالم تغير وأنه فقد مصادر معلوماته.
وكان ذلك افتراء على الحقيقة.
عندما جاء الرئيس الأمريكى «باراك أوباما» إلى القاهرة وألقى محاضرة فى جامعتها وقف تقريبا وحده ضد الهوس الإعلامى والسياسى الذى صاحب الزيارة المثيرة.
لم يشر بأى حرف إلى اللقاء الذى جمعه على انفراد فى«جامعة شيكاغو» لنصف الساعة مع «أوباما» قبل إعلان تنصيبه مرشحا رئاسيا باسم الحزب الديمقراطى.
رغم الحملة عليه لم يكن مستريحا للكشف عن هذا اللقاء «لا أريد أن أختفى وراء أى شىء».
هذا مجرد مثال لمئات اللقاءات على هذا المستوى لم يعلن عنها أبدا.
لم يكن يريد إثارة حساسية أحد فى السلطة وقد كانت الحساسية تجاهه بالغة طوال سنوات «مبارك».
هذا الكلام الأخير كتبته فى حياته وقرأه على سرير مرض فى مستشفى بريطانى أجرى فيها عملية جراحية دقيقة فى العظام لم يتمكن بعدها من الحركة بغير الاعتماد على «الووكرز».
لم يأبه بالقيود المستجدة على حركته وحاول بقدر ما يستطيع أن تمضى الحياة على وتيرتها السابقة.
طالما هو يجلس على مكتبه، يقرأ ويعمل ويحاور ويساهم فى السجال العام وتخفيف أعباء التحول إلى المستقبل، فإنه لا شىء آخر يهم.
عندما اقتربت أعياد الميلاد خطر له أن يطل مجددا على الأندلس وذكرياته القديمة لا تغادر مخيلته.
بدا مسحورا بجمالها كأنه يراها لأول مرة.
فى كل مكان أثر جليل من تاريخ أمة عريقة ارتبكت هويتها وضاعت بوصلتها وجرفت نظرية أمنها القومى.
هل كانت مصادفة أن يختار الأندلس رحلة أخيرة؟
فكر فى اليونان وأماكن أخرى لكن شيئا ما دعاه إلى الأندلس كأنها رحلة وداع لكل معنى حضارى أهدرناه.
من وداع فى الأندلس إلى الوداع فى القاهرة تداعى كالجبال على غير انتظار فى أسابيع قليلة.
عندما بدأت نذر النهاية اتصلت بى السيدة قرينته قائلة: «الأستاذ هيكل طلب أن يراك مرتين لكن حالته لا تسمح بأى لقاء.. أردت أن أقول لك ذلك حتى أبرئ ذمتى أمام الله وأمامه».
لم أكن أعرف وأنا أنحنى على جبينه مقبلا أن لقاء غرفة النوم هو اللقاء الأخير مع رجل استثنائى لا مثيل لأثره الطويل والممتد فى التاريخ المصرى المعاصر.
غير أن أسطورته تستعصى على الموت وأثره باق لحقب طويلة مقبلة بغير عدد.
يمتزج فى أسلوبه على نحو فريد عقلانية التفكير ورومانسية النزعة.
قوته فى عقلانيته ونفاذه فى أسلوبه.
قال ذات مرة: «نصف ما أكتبه أدب».
يرى أن الحياة يوم وقد كان يومه طويلا.
فى آخر اليوم الطويل لم يكن مستعدا للاستماع إلى كلمات التكريم أيا كانت درجة صدقها.
فى احتفال «الأهرام» بعيد ميلاده قبل الأخير قال إنه يعتبره رسالة شكر من المهنة لرجل فى «آخر يوم طويل».
هو رجل لا يحب الإفراط فى المجاملات ولا المراثى.
طلب من أبنائه ألا تكون هناك مبالغات فى مراسم وداعه.
يعتقد دون تصريح أن ما سوف يتبقى منه هو فكره وكتاباته وأدواره المحورية فى صناعة التاريخ المصرى المعاصر.
أحد مصادر قوته أن الماضى لا يقيد نظرته إلى المستقبل.
للماضى أهميته بقدر ما يشير إلى معنى لا يصح إهداره وخطأ لا يجوز تكراره.
حاور أكثر من أى أحد آخر فى هذا البلد الشباب الجديد.
كل الأسماء التى برزت بعد «يناير» وأثناء «يونيو» التقته فى مكتبه.
استمع بلا وصاية لأحلام تولد وأفكار تبحث عن تجربتها.
قبل أن يدخل فى تعقيدات المرض طلب من الرئيس الإفراج عن الشباب الموقوفين وفق قانون التظاهر وفى الطلب انحياز إلى المستقبل ودعوة إلى صفحة جديدة.
فى آخر اليوم الطويل قال كلمته ومضى.
فى آخر اليوم الطويل تأكدت أسطورته.
كان يرى أن هناك فارقا بين الأسطورة التى تنسب أفعالها إلى التراجيديات المتخيلة وبين الأسطورة التى تتبدى من بين ثنايا التاريخ ومعاركه وإلهاماته.
شىء حى حقيقى وملهم يأبى الرحيل بعد يوم طويل.
.