لم يفهم الجندي المسكين الواقف على بوابة التفتيش في مطار القاهرة بأن حقيبة الكُتب الإضافية التي معي هيّ كُتب شخصية ولست أتاجر بها. عندما فُتحت الحقيبة الضخمة لقى ثماني نسخ من كتاب كبير يضم «ست روايات قصيرة» لعلاء الديب (الهيئة العامة للكتاب-القاهرة) فاعتقد الجندي أني أخذتها بهدف بيعها في بلدي، وهي بسعر مدعوم حكومياً.
«لازم جمارك يا بيه» هكذا قال لي وهو لا يعلم بشرائي لها كهدايا، وأنا الذي أحب إهداء كُتب الأدباء الذين أحبهم لِمن أحبهم.
وصاحب «عيون البنفسج» من أولئك الذين أرى بضرورة أن يُهدى وأن يتم تعميم كتابته التي لم تنفصل عن حياته ليكون أمام القادمين الجدد مثالاً/ تمثالاً يمنحهم ولو نقطة نور واحدة في هذا الوقت الترابي الذي صرنا نقيم فيه. استطاع الديب أن يختم حياته وقد نجح في عدم فعل خطوة واحدة إلى الوراء مستجدياً أو طالباً منفعة شخصية أو متنازلاً عن مبدأ أو منخرطاً في «شلّة» تدفعه إلى فعل ما لا يهوى أو ما لا يؤمن به. قرّر العيش في عزلة اختيارية بعيداً عن «الحظيرة» الرسمية، وظهر إثر كل هذا «كأنه صنع تمثالاً خالداً للوحدة».
لكن تلك العزلة لم تتخذ لنفسها مساراً مرضياً شبيهاً بحالة الاكتئاب الشرسة التي أصابت مثقفين كُثر بعد هزيمة يونيو 1967 وضربتهم في مقتل، بل جاءت على نحو متسم بالإنجاز الأدبي والصحافي الذي قرن صاحبه بـ»عصير الكتب» الذي ما يزال واحداً من أبرز المساحات التي تخصصت في عرض جديد الكتب وتقديم أصحابها على نحو رفيع وبنظرة تمنحهم خطوة إلى الأمام. وقد كان يفعل كتابته تلك بعيداً عن تأثير معرفة مُسبقة أو بدافع من منفعة يود وصولها.
هكذا يمكننا اكتشاف الطريقة التي نجح عبرها كاتب «أطفال بلا دموع» من تحقيق نجاته من مرض الاكتئاب، حين استنجد بالكتابة متخذاً إياها مساحة للفضفضة والبوح بالقدر الذي منحه فرصة للتخفيف من الأثقال التي هجمت على قلبه حيث «كان الألم يقربه من جوهر وجوده». ويمكن لمس هذه النقطة بملاحظة النبرة الذاتية التي كانت تسيطر على لغته السردية بحيث لا يمكن فصلها عن باب السيرة الذاتية، مع ذلك التطابق الكبير الذي جمع بين الكتابة وحياة الديب نفسها.
ولنا هنا اتخاذ عمله «أيام وردية» (2002) نموذجاً يمكننا عبره وضع أيدينا على جملة الإشكالات التي حاصرت حياة الديب وجعلت قلبه موجوعاً. لا نقدر ونحن نمضي في صفحاتها على وضع فاصل كبير بين حياة بطل العمل (أمين الألفي) وبين كاتبه الذي عمد في إصدار «ست روايات قصيرة» التي كانت «أيام وردية» من بينها، إلى إلحاق شهادة في ختام الكتاب تكاد تطابق حياة الألفي نفسه من إدانة لتحولات الطبقة الوسطى التي ينتمي إليها وكيف تحولت البلاد إلى منافذ للجريمة والتهريب وظهور الجماعات الإسلامية مدعومة بالنفط والمال السعودي. لقد عاش علاء الديب هذا واقعاً حين ذهب في غربة قصيرة إلى تلك «الأرض الحرام» استمرت ستين يوماً وعاد. لكن بقيت تجربة الرحلة في الغربة «كابوساً إنسانياً وفنياً» لأنّها «فتحت لي مغاليق الظاهرة الرهيبة التي يعيشها ملايين المصريين الباحثين عن الرزق والمال، متحملين أنواعاً غريبة من المعاملة والتعامل مما يصنع ملاحم في العذاب والتصادم والكذب». لقد سجل كل هذا في روايته القصيرة تلك كأنه يبحث لنفسه عن نجاة من عواقب الغرق في الاكتئاب المميت ليرحل اليوم بقلب هادئ ومطمئن، يكاد يطابق نهاية بطل «أيام وردية» الذي «عرف أخيراً كيف يموت، حوله دنيا واسعة، خالية، ليس إلى جواره أحد، لم يكن حزيناً. يراقب الأشياء وهي تنتهي، ليس في ضوضاء، لكن في سكينة».
نقلًا عن جريدة “الأخبار اللبنانية”
.