في عالمنا العربي كثيرًا ما نستخدم بإسراف أفعل التفضيل هناك الأقوى والأحسن والأجمل والأروع وغيرها، أحيانا نبحث عن صفة متفردة في فنان لتصبح لصيقة به، في منتصف الخمسينات من القرن الماضي كانوا مثلا يطلقون على مطرب لم يستمر كثيرًا ورحل عن عالمنا قبل بضع سنوات وهو أحمد سامي لقب «أطول مطرب»، لأنك بالفعل لو تأملت مطربينا الكبار مثل أم كلثوم وعبد الوهاب وفريد الأطرش ومحمد فوزي وعبد الحليم حافظ ونجاة لوجدتهم يتنافسون فيما بينهم على لقب الأقصر.
في مجال الرياضة من الممكن الحديث عن الأوزان والأحجام، فلا نتصور مثلا أن لاعب كُرة سلة قصير القامة، ولكن في الفن لا مجال للتنابز ولا حتى بدخول الموسوعة الرقمية، مثلما استطاع المطرب السوري صباح فخري احتلال مركز متقدم عالمي لم يتجاوزه أحد لأنه غنى 18 ساعة متواصلة، صباح، 83 عاما، لديه حضور طاغ ويستحق الوجود في الموسوعة، ليس لأنه غنى كل هذه الساعات. ماذا لو أن مطربا محدود الإمكانيات غنى 18 ساعة ودقيقة هل يخرجه إذن من الموسوعة؟
هذا الكلام يبدو ربما للوهلة الأولى بعيدًا عن مهرجان برلين – أكتب هذه الكلمة قبل إعلان النتائج بساعات قلائل بسبب ظروف الطبع – حيث تنافس على الجوائز الفيلم الفلبيني «الأحجبة الغامضة المؤسفة» وزمنه 8 ساعات ودقيقتين، لا أتصور أنه من الممكن أن تخلو منه قائمة الجوائز الرئيسية «الدب».
هذه هي المرة الأولى التي يعرض في إطار مهرجان دولي كبير فيلم بهذا الطول، هو ليس الأطول، لأنه تاريخيا هناك أفلام امتدت 14 ساعة، ولكن ترتيبه يأتي ربما في المركز الثامن، ويبقى في الحقيقة تساؤل عن زمن الفيلم، في المتوسط لا يتجاوز ساعتين، وذلك بعد أن استقرت السينما تحت منظومة صناعة متعددة الاتجاهات، فلا تستطيع أن تفصل زمن الفيلم عن التكلفة ومدة العرض ومواعيد دور السينما التي في العادة تقدم 6 حفلات يوميا، وهكذا تدور الصناعة السينمائية من خلال قانون يفرضه الاقتصاد وأيضا الحالة النفسية للجمهور، إذ إن طاقة الاستيعاب تحتاج بعد ساعتين إلى التوقف.
الأمور ليست مطلقة تماما بيد مخرج العمل الفني، بل هناك محددات ينبغي مراعاتها، الزوايا متعددة ولكن لا بأس بين الحين والآخر من المغامرات، في العالم العربي نجد مشكلة عندما يتجاوز زمن الشريط ساعتين، وفي مصر لا ترحب دار العرض في العادة بمثل هذه الأفلام، أتذكر أن المخرج يسري نصر الله قدم قبل نحو 12 عاما فيلم «باب الشمس» تجاوز الأربع ساعات وواجه رفضا من شركات التوزيع، وفيلم «العائد» المرشح بقوة هذا العام لحصد جوائز الأوسكار تم حذف عدد من مشاهده ليعرض مصريًا بسبب زيادة زمنه على الساعتين.
بينما اضطرت إدارة مهرجان «برلين» إلى منح الجمهور فاصلاً للراحة بعد 4 ساعات، كما أنه تم تقديم العرض الرسمي بدلا من «السواريه» كما هو معتاد إلى «الماتينيه»، ليشهد الجمهور والصحافة معا عرض الفيلم والترحيب بنجومه، ووجدت البعض يسألني متهكما هل أحضرت الساندويتشات؟ وهل لديك وسادة للنوم؟، إنها في كل الأحوال تظل حالة استثنائية، وبعد أن صمدت كل هذه الساعات مستمتعًا بالرؤية البصرية والفكرية التي طرحها الفيلم الفلبيني، أقول لكم فعلا المهرجان لديه كل الحق عندما قرر أن يغير من قواعد اللعبة السينمائية، الفيلم استثنائي ولا يمكن سوى أن تشاهده في 8 ساعات ودقيقتين، على شرط أن تنسى تماما كل شيء ولا يتبقى في ذاكرتك سوى هذا الشريط، وسوف أستخدم هذه المرة أفعل التفضيل مضطرًا وسامحوني لأقول إنه في برلين يستحق لقب «الأروع»!!
.