في كل أزمة يمر بها الوطن تترامى إلى مسامعنا حلولاً تبدو حازمة وحاسمة في مواجهة الأزمات، لكنها في حقيقة الأمر ينقصها بعض العمق في الدراسة والتحليل بعيداً عن أي ميول عاطفية أو أحكام سطحية تُحوّل المشكلات الوطنية المختلفة إلى مجرد صراعات شخصية تنسينا جوهر المشكلة لتتصدر الفروع فنتوه عن الحل الأمثل لها، هكذا رأيت وتابعت أزمة أمناء الشرطة أو قُل كارثة جهاز الشرطة، إنها مشكلة عويصة ليست وليدة أيامنا الحاضرة، كما أنها ناتجة عن الأسوار التي بنيت بين جهاز الشرطة من جهة وعامة الشعب من جهة أخرى على مر السنوات الكثيرة الماضية طمعاً في فرض مظهراً معيناً على هذا الجهاز الأمني بهدف ضبط المجتمع، بينما ضبط المجتمع لا يعني تغوّل الأجهزة الأمنية ووصولها لحالة من الغرور يستعصي معها الوصول إلى تطوير أو تحسين.
إعادة الهيكلة باتت أمراً لا غنى عنه شاملاً المناهج والأهداف والسبل وطرق التأهيل، ففيما تسعى الأجهزة الشرطية في الدول المتقدمة إلى حفظ الأمن محتفظة بأخلاقياتها ومبادئها الأمنية يتعلم العاملون بالأجهزة الشرطية في البلاد النامية كيف يفقدون الأخلاقيات أثناء ممارستهم لأعمالهم ظناً منهم أن هذا هو الأسلوب الأمثل في حفظ الأمن والقضاء على الظواهر الإجرامية، دون أن يشعروا جعلوا من أنفسهم ظاهرة إجرامية تجوب البلاد وتتحكم في مقاليد الأمن، بالطبع هذا التصور المخيف لا يمكن تعميمه على جميع الضباط أو الأمناء لكننا أيضاً من الواجب علينا أن نعترف بوجوده ونبحث عن حجمه الحقيقي لاختيار العلاج المناسب له.
دراسة الرئيس السيسي لاستحداث تشريع يضبط عمل جهاز الشرطة خطوة جيدة تدل على حسن نوايا الجهاز الرئاسي بالدولة لكنني أرى أنه لا يفي بالغرض إذا لم يكن هناك تغييراً أو تطويراً جذرياً للجهاز الشرطي برُمته، لأن التحايل على القوانين صار سمة مصرية أصيلة في كل القطاعات الحكومية وغيرها، فما أكثر ثغرات القانون وما أكثر مستغليها، ما يؤدي بشكل منطقي إلى فشل المحاولات القانونية لتبديل الأساليب تبديلاً أساسياً نهائياً لا رجعة فيه.
أيضاً من العبث أن أتهم العاملين بالشرطة بالتعدي دون أن أرى ما يعانون منه من ضغوط إدارية أو معيشية ربما تدفعهم إلى التوحش في علاقتهم مع أفراد الشعب، فكلما عاش الإنسان مرتاح السريرة مبتعداً عن الضغوط أياً كان نوعها يبتعد عن إمكانية جنوحه إلى العنف، وهذا يحيلنا بشكل مباشر إلى الحالة النفسية التي ينبغي أن يكون عليها الشرطي ليستطيع أن يمارس مهامه الأمنية باحترافية شديدة، فيكون متحكماً بانفعالاته وموجهاً لردود أفعاله، لذلك ليس من العيب أو الشاذ إدارياً وضع مناهج نفسية تتضمن اختبارات وخطط تأهيلية للعاملين بالشرطة لتكون بمثابة رفع للقدرات الأمنية إلى جوار المواصفات الأخلاقية، دون تجاهل الجانب القانوني واللوائح المنظمة الضابطة للعمل الشرطي.
أخيراً، أوضّح أن إعادة الهيكلة تهدف إلى التطوير ورفع القدرات وإزالة العقبات أمام الجهاز الشرطي وهي لا تضر بالحالة الأمنية الآنية لمصر بما تحمله من أعمال إرهابية لأن التحديات الأمنية في أي دولة لا تتوقف، فإذا أجلنا هذه المراجعات إلى المستقبل لن يخلو الحاضر من الانتهاكات، كما أن التأجيل لن يتوقف.