كانت المكالمة التى غيرت مجرى حياتى وذكرتها فى الحلقة السابقة هى مكالمة بين وبين قريبى الذى نزل الثورة من اول لحظاتها يوم 25 يناير، وكنت منذ بداية الثورة احسد هذا القريب على مشاركته المبكرة ودائماً اسأله عن الاجواء وهوية المشاركين ويؤكد لى انهم من كل الفئات والاعمار والطبقات الاجتماعية، ويحاول ان يطمئننى لانى بطبعى متحفظ فيما يتعلق بالسياسة، الا انه فى هذه المكالمة بالذات كان يحمسنى ويؤكد ضرورة تواجدى ضمن الاحداث باعتبارى اعلامى، ووجدت نفسى ارد كالمسحور باننى ساتحرك فى الطريق اليه ولم افكر فى اى شئ الا فى ان مكانى الطبيعى هو قلب الميدان، وتناسيت تماماً الاحتياجات المنزلية التى نزلت اساساً لشرائها واقتراب ميعاد بداية حظر التجول وتجاهلت ايضاً السؤال الهام كيف سوف اذهب لميدان التحرير الان ؟؟!!
وفكرت فى التاكسى ولكننى عندما خرجت الى شارع شبرا الرئيسى فوجئت بشخص اعرفه ويعرفنى جيداً كان يبيع الاشياء البسيطة مثل فرش الشعر والمفكات والكشافات الصغيرة وغيرها، كان هذا الشخص يستقل ما يشبه التروسكل ويبدو انه سمعنى وانا احاول عبثاً ان اجد تاكسى يوافق على الذهاب للتحرير، فوجئت به يؤكد انه ذاهب للتحرير ويطلب منى ان اتحرك معه ولاننى ادركت ان الوقت يمضى وربما لن اجد تاكسى فوافقت على الفور، وجلست مكان البضاعة فى التروسكل وبعد ان تحركنا قليلاً فوجئت بجموعة من الشباب الصيع يشيرون له فبادر بالتوقف معتبراً انه يؤدى خدمة وطنية عندما يذهب بهم للتحرير، وبدأت علامات الضيق تظهر على وجهى لان منظر الصبية لا يوحى باى نضال او وطنية وصاحب التروكسل لم يفطن لهذا، وتماسكت محاولاً الانشغال باشياء اخرى ولكن عينى عليهم مثل الديب الذى ينام مفتوح احد العينين !! وامنت متعلقاتى الشخصية خوفاً من السرقة وفجاءة وفى منتصف شارع شبرا فوجئت بهم يتغامزون فيما بينهم عن مكان موول اركاديا وهل اصبحت المسافة قريبة منه ام لا ؟! وهنا فهمت سريعاً القصة وهى ان هولاء الصبية قرروا النزول بعد ان سمعوا عن تدمير ونهب موول اركاديا لعلهم يصيبون منه شئ ولم يجدوا وسيلة مواصلات، فاستقلوا التروكسل حتى تقترب المسافة ويكملوا هم الشارع العمودى على شارع شبرا سيراً على الاقدام حتى يصلوا للكورنيش واركاديا، وهنا استغرب صاحب التروكسل من انهم لم يكملوا للتحرير (ناس طيبين اوى يا خال) !!
واثناء الطريق الى التحرير فوجئت بمكالمة هاتفية من عمى يسألنى متلهفاً عن مكان تواجدى فقلت له اننى فى طريقى لشراء احتياجاتى ويبدو انه لم يصدقنى، فقال لى ان الحظر بدأ واننى يجب ان اعود للمنزل فوراً فاكدت له كذباً اننى سوف انتهى واعود سريعاً للمنزل الا انه فى الغالب ادرك اننى مستقلاً شيئاً ما والضوضاء حولى اعلى من ضوضاء شخص يمشى على قدميه، ولكنه لم يكذبنى واذكر انه حذرنى فقط من الذهاب للتحرير !! وعندما وصلت التحرير ونزلت لكى التقى مع قريبى وشكرت صاحب التروسكل ولا ادرى اين ذهب ذلك الرجل ولم اره من يومها حتى الان بل انه بعد الثورة لم يعد لفرشته ربما مات او اعتقل.
وقابلت قريبى الذى فرح بوجودى كثيراً ويبدو انه كان فاقداً للثقة فى امكانية تواجدى لاننا اساساً من عائلة محافظة سياسياً ولا يمكن ان يفكر شخص فيها فى مجرد الاشتراك فى مظاهرة، ولا ادرى لماذا احسست بشعور عجيب من الراحة والطمأنينة عندما نزلت الميدان بل زال عنى كل التوتر السابق، ربما لانها كانت اول احتكاك لى بالحياة العامة منذ ايقاف البرنامج الذى اعمل به منذ سبتمبر 2010 ، ووجدت الاعلامية “بثينة كامل” داخل الميدان مع مجموعة من الناس وحرصت على التقاط صورة تذكارية معها لاننا حتى ذلك الوقت كنا نطلق على بعض الشخصيات المعارضة فى زمن “مبارك” لقب مناضلين واثبتت الايام وحدها صدق ما كنا نقوله من عدمه، وبعدها تحركت مع قريبى فى الميدان وكان يعتبر بمثابة الدليل بالنسبة لي باعتباره كان موجوداً فى اليومين التاريخيين يوم 25 وجمعة الغضب، وعرفنى على مجموعة من اصدقاؤه و اصبحنا نتجول كمجموعة فى الميدان لكنه تميز عن اصدقاؤه بانه الوحيد الذى حضر يوم 25 ويعرف تفاصيله الحقيقية، وحان موعد صلاة المغرب او العشاء وقررنا ان نصلى جماعة بالقرب من المتحف المصرى، وتنحيت مفسحاً المجال امام الاخرين لانهم كان يبدو عليهم التدين واحسست اننى رغم انى اكبرهم سناً الا انى على اى حال لست افقههم ديناً، الا انهم اصروا بشدة على ان اتولى الامامة وخلال الصلاة دخل شخص متأخراً وصلى بجانبى مباشرة ولم ينضم لصفوف الجماعة، وفوجئت بطوفان من الكاميرات والفلاشات والاشخاص يتجمعون حولنا ليصوروا الصلاة وتصورت ان هذا جزء من الدعاية الايجابية للثورة لتأكيد ان شباب الثورة شباب ملتزم يصلى ولما ينزلوا الميدان للهلس او لانهم عملاء، ولاننى متعود بدرجة ما على الكاميرات والاضاءة فقد واصلت الصلاة رغم اننى اضطربت فى البداية قليلاً لان التصوير والكاميرات معناه اننى ثبت تواجدى فى الثورة ولو حدث وفشلت لا قدر الله ربما اتعرض لمشاكل كثيرة، لكننى طردت سريعاً جداً ذلك الخاطر الاحمق لان من يفعل شئ عليه ان يتحمل عواقبه مهما كانت، وواصلت الصلاة فى ثبات حتى جاءت الركعة الاخيرة ووجدت لسانى ينطلق ببعض الدعوات واذكر اننى قلت “ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا”، وكررتها مرتين وجاءت كلمة السفهاء لتحمل معانى متعددة كالشيخ الذى دعى فى الصلاة فى فيلم “الارهاب والكباب” وكان خلفه “كمال الشناوى” وزير الداخلية الذى سأل مساعده تفتكر يقصد مين بالسفهاء ؟؟!! ولكنى فى الغالب كنت اقصد السفهاء الذين يشككون فى اهمية الثورة وحتميتها، وبعد التسليم فوجئت بالشخص الذى على يمينى يربت على رجلى ويقول ما يشبه “بارك الله فيك او شئ من هذا القبيل”، فمن هو ذلك الشخص ؟! وما سر الكاميرات التى اجتمعت لتصوير الصلاة ؟؟؟! هذا ما سوف نعرفه فى الحلقة القادمة باذن الله.