نقلاً عن “جريدة المقال”
حين صار الزعيم “سعد زغلول” رئيسًا للوزراء ذهب إليه العربجية يشكون تزايد نفوذ السيارات، وتقلص نفوذ الكارو، فقابلهم وسمع منهم، ثم قال لهم: “إنني عربجي مثلكم، مهمتي أن أقود العربة كما تقودونها، والفرق بيني وبينكم أنكم تحملون الكرباج وأنا لا أحمله، ونحن الآن في عصر السرعة والسيارة علامة التقدم، وإنها تحل في العالم محل الحنطور، ولا أستطيع كزعيم لهذه الأمة أن أسمح لها أن تتخلف، أن تمشي ببطء في عصر السرعة، وإنني أفهم بدلا من أن تطلبوا منع السيارات أن تلزموا الحكومة بأن تنشئ مدرسة لتعليم القيادة.. إن كنتم تريدون أن تتقدم مصر بسرعة العربة الحنطور فسأخضع لرأيكم، وإذا أردتم أن نتقدم بسرعة السيارة أو الطائرة فسوف أفعل ما تأمرون به”، فصاحوا: “بسرعة الطائرة”.
هذا بالضبط ما يجرى الآن فى بلاط صاحبة الجلالة، فنحن فى عصر السرعة التقنية، لكن ليس لدينا “سعد زغلول” فى نقابة الصحفيين والمجلس الأعلى للصحافة ليعيد صياغة المفاهيم العصرية، وإقناع الغالبية بأن ما يجري هو علامة التقدم، وأن بدون مجاراته، واستيعابه، وفهمه، وإدراكه لن ينصلح حال الصحافة فى مصر والدول العربية، فأغلب الصحف الورقية فى العالم المتقدم -وتحديدا فى أمريكا وإنجلترا- درست، وفحصت، وتأكدت أنه لا سبيل لاستمرارها على المدى الطويل إلا إذا كان لديها نسخة ديجتال ناجحة ومؤثرة، بل إن نجاح الصحيفة الرقمية هو السبيل الوحيد لاستمرار الصحيفة الورقية، فالنسخة المطبوعة تعطى مصداقية كبيرة للنسخة الديجتال، وتجعلها أكثر جذبا للقراء والمعلنيين.
وهذا ما حدث فى إنجلترا، وتحديدا فى صحيفتى “التايمز” اليومية و”صنداي تايمز” الأسبوعية، فبعد أن كانت تلك المؤسسة الضخمة التي يملكها إمبراطور الإعلام “روبرت ميردوخ” أوشكت أن تغلق أبوابها فى عام 2010 ، عادت لها الحياة مرة أخرى حين أطلقت نسختها الالكترونية بل زادت نسبة توزيعها حين ربطت بين النسختين الورقية والرقمية حيث جعلت القارئ يدفع 6 جنيهات –استرلينى- مقابل حصوله على الصحيفتين لمدة أسبوع كامل في شكليهما المطبوع والرقمي.
وحدثت المفاجأة حيث حققت المؤسسة أرباحا تقدر بقرابة ثلاثة ملايين دولار لأول مرة منذ ثلاثة عشرة عاما، بعد أن كانت قد خسرت 100 مليون دولار، ولم يكن أكثر المتفائلين يظن أن “التايمز” يمكنها أن توقف نزيف الخسائر الهائلة التى تكبدتها قبل أن تضع يديها على المعادلة الصعبة لكنها ليست مستحيلة، بل ممكنة وممكنة جدا شريطة أن تتوافر الإدارة الواعية، والإرادة الحقيقية، والخطة الواضحة، والهدف المطلوب تحقيقه، والمدى الزمني لقياس مدى النجاح أو التعثر فى التجربة.
لكننا فى مصر مازلنا نطرح تلك الرؤية الساذجة، والمكررة، والمحفوظة، والمُملة، وهى أن الصحافة لن تنقرض والدليل هو أن الراديو لم ينقرض بظهور التليفزيون!
لكننا فى مصر -مع الأسف- لا نريد أن نعلم ونتعلم ما يجري فى العالم حولنا، وما فعلوه ويفعلوه لمواجهة شبح إغلاق الصحف الورقية، هم يعملون ويخططون ويجربون ويفكرون بينما نحن نائمون ونقول باستعلاء، ودون جهد الصحافة لن تنقرض والدليل هو أن الراديو لم ينقرض بظهور التليفزيون!
وهذا حق؛ لكن يراد به باطل، فالراديو بعد أن انحصر دوره وقلت جماهيريته استطاع تطوير أدواته وصنع لنفسه شريحة محددة يخاطبها، وجمهورا خاصا به، وقام بتغيير المحتوى -حتى لو اختلفنا حول قيمته- بما يلائم طبيعة الجمهور المستهدف، وحقق انتشارا واسعا وملحوظا، وتمكن من جذب المعلنين إليه، وصار له مريدين دائمين، وهم مالكو السيارات الملاكى، وسائقو الأجرة، وزبائنهم، وهذه الفئة يمكن بالضبط تحديد أعدادهم، والتوقيتات المناسبة لهم للاستماع للراديو، ومعرفة ميولهم، ومستواهم الاجتماعى، لذا عاد الراديو مؤثرا، وصمد فى مواجهة كل التغيرات التي طرأت خلال قرن من الزمان.
أما الصحف فى مصر فمازال أغلبها يخاطب قارئ واحد بلغ سن المعاش، ويجلس على فراش المرض، وقد يرحل عن عالمنا قريبا، ولعل أبرز دليل على ذلك ما حدث معى حين كنت أحاضر فى إحدى الجامعات، وسألت طلاب أحد أقسام الصحافة: من يقرأ الصحف يوميا؟
فلم يُجب أحد، فأعدت السؤال بصيغة أخرى، من قرأ صحف هذا الأسبوع؟
فلم ينطق أحد، فسألتهم للمرة الثالثة: متى كانت آخر مرة تقرأون فيها صحيفة ورقية؟!
فجاءت الإجابة من خمسة طلاب من خمسين، أنهم يقرأون الصحف ولكن على فترات متباعدة كل شهر مثلا.
لاحظ أننى أتحدث عن طلاب أقسام الصحافة، والمدهش أن هذا السؤال كررته فى أغلب جامعات مصر، وللأسف حصلت على نفس الإجابة!.
.