أنا من ضيّع في “الشيفتين” عمره
مجبرٌ أخاك في مهنة كتلك أن يعمل بأكثر من مؤسسة، عله يستطيع أن يكسب قوته ويكوّن نفسه ويجهز شقته “إن وُجدت” ويتزوج بنت الحلال بالحلال.
لماذا لا يتقاضى الصحفي راتبًا محترمًا معتَبرًا يعينه على العمل بمؤسسة واحدة؟ سؤال تقليدي ومُكرر.. لكنه مُبرر، ومجبرون على الاستمرار في تكراره حتى يأتي اليوم الذي يستطيع فيه أن يتفرغ قليلًا ويتبقى له فائض من الوقت ليقرأ ويطلع وبالكتابة يضطلع، ويكوّن علاقات ويكسب صداقات، إلى آخر تلك المهارات التي يحتاجها أي صحفي . فأغلب صحفيي مصر لا يقرأون لأنهم مشغولون، بل لا يشترون جريدة إلا إذا كان “نازل لهم فيها حاجة”!
لكن لا تسأل.. تعودنا في الصحافة على أنه “ادفع وبعدين اشتكي”.. ادفع من عمرك وصحتك ومجهودك، ودعهم يمصون دمك إلى آخر قطرة، ويعصرون دماغك إلى آخر فكرة.. دون مقابل.
دفعت؟
اشتكيت؟
سيقولون “هنعينك”.. اعلم أن أمامك سنوات من الانتظار بشغف حتى تنال هذا “الشرف”.
سيقولون “هندخلك النقابة”.. بيشتغلوك.. أيوة بيشتغلوك، وسيظلون يشتغلونك حتى تشعر أن دخول الحربية أسهل من دخول النقابة!
ستمتعض.. هيضطهدوك
ستعتصم.. هيهددوك
ستضرب.. هيفصلوك
إذن من الأفضل أن تعلم أنه عمومًا أمامك خيارين. إذا كنت تجيد التقرب والتملق والتزلف والتسلق، فالأمر هيّن والصعب ليّن، أما إذا كنت”راجل دوغري” فتعالى جنب أخوك وقابل..
غالبًا سيقولون لك إنه ممنوع العمل بمؤسسة أخرى، ولن يعطونك المقابل الكافي ولا التقدير الوافي، ولأنك تسابق الزمن للزواج منها قبل أن يزوجونها لابن خالتها الذي يعمل بالخليج، ستبحث بالفعل في مؤسسة أخرى، لكن وفقًا لقواعد اللعبة!
قد تضطر لتغيير اسمك والتنصل من أصلك حين تنشر شيئًا في الجريدة أو الموقع الجديد. هل سمعت عن توفيق الدهشوري الذي عمل بجريدة أخرى فحول اسمه إلى شاهيناز تامر؟ قد تلجأ إلى شيءٍ من هذا القبيل.
واطمئن. فعلها قبلك الشاعر والمؤلف العظيم بديع خيري.
في بداية حياته ككاتب مسرحي لم يكن يكتب اسمه على مسرحياته حتى لا يتم رفته من مهنته الأصلية “التدريس”. لكن ليست هذه المشكلة. نجيب الريحاني كان يسكن فوق المسرح الذي عُرضت فيه إحدى مسرحيات خيري، وشاهد المسرحية وأعجبته بشدة وقرر التعاون مع مؤلفها.. وإذا بالمسرحية بلا اسم مؤلف! سأل موظفًا بالمسرح -لا داعي لفضح اسمه- عن المؤلف، فرد: “أنا”!
واستغل الموظف خوف بديع المريع من الرفت واتفق معه على تأليف مسرحيات يسلمها الموظف للريحاني باسمه مقابل تقاسم الراتب! وهو ما لم يكتشفه الريحاني إلا بعد 3 مسرحيات لم تحمل اسم كاتبها الحقيقي.
تأكدت بنفسك أن الموضوع كبير؟
أنت الآن بتشتغل شيفتين..
غالبًا سينتهي “شيفت” المؤسسة الأولى في الخامسة عصرًا وسيبدأ “شيفت” الثانية في الخامسة أيضَا! وعليك ألا تترك الأولى قبل الخامسة وألا تصل الثانية بعد الخامسة! وإلا، فنهار أبوك أسود من ليله. وزي ما إنت عارف الطريق بينهما غالبًا واقف! لكن هذا هو المطلوب منك. إزاي؟ ماتعرفش. منين؟ ماتسألش. ألم يقل الرئيس السيسي ذات مرة: “إزاي.. ده ممكن، ومنين.. ده ممكن”؟
ثم ألم أقل لك: لا تسأل.. و”ادفع وبعدين اشتكي”، وإذا اشتكَيت، وثُرت وبكَيت، ووَجَبَت التضحية.. ستكون أنت الطرف المُضحي..
ستطلب مراعاتك في ربع ساعة فقط…
لو أنهم يقبلون بعملك في مؤسسة أخرى سيخبرونك أنه “مالناش دعوة.. لازم تخرج 5 بالظبط حتى لو مفيش شغل”، والمؤسسة الثانية أيضًا ستؤكد أنها “مالهاش دعوة.. ولازم توصل 5 بالتمام والكمال”!
سيقاومونك ويساومونك على ربع ساعة، رغم أن إحداهما لو أعطتك حقك بما يرضي الله والمنطق، لما لجأْت للأخرى وما رضيت بالسخرة. وسينتهي الأمر في النهاية على أن تصل “الشيفت” الثاني في الـ5 والنصف ولا تخرج الساعة 12 كباقي زملائك، ولكن تخرج في الـ12 والنصف! ثم تَجري لتنام حتى تنتصب واقفًا أمام مديرك من النجمة.
دائمًا أنت من يجب أن يضحي ويتنازل وينخ، هم فقط يتألقون في أن ينصبوا لك الفخ.
لن تجد وقتًا للقراءة والاطلاع، والثور في الساقية يتفرغ فقط للانصياع، اسمك صحفي لكنك في الحقيقة مجرد موظف، بل يتفوق عليك الأخير في أنه يشتري الجرائد، حتى ولو ليحل الكلمات المتقاطعة! وكما تعلم.. صحفي بلا قراءة كطبيب بلا سماعة، كتاجر بلا بضاعة، كسياسي بلا وضاعة!
بعد الخطوبة لن تجد وقتًا لزيارتها، سيجلب ذلك لك المشاكل، رغم أنك لا تفعل ذلك إلا عشانها وعشان أمها.. أقصد طلبات أمها.
الانشغال طوال اليوم سيحرمك من مشاهدة مباريات الزمالك، ستتمنى لو كنت أهلاويًا كهؤلاء المنتشرين حولك، الذين لا تشغلهم كثيرًا مشاهدة مباريات فريقهم.
صلة الرحم ستنقطع، لمة الأصدقاء ستنقشع، من سبقك حاول إعادة الأمور لمجاريها والتوفيق بين عمله وعلاقاته.. ولم يستطع.
لن تموت.. ستعيش، لكنك ستصبح عايش عشان تشتغل مش شغال عشان تعيش، وستتوقف عن سماع أغنية مأمون المليجي التي كنت تحبها:
“ما تحطنيش في المفرمة وتقول لي عيش!
أحكام زمان العولمة ماتهمنيش..
طول ما القلوب المغرمة مليانة نور..
هرفض أعيش مسجون في سجن الأكل عيش”!