في عربة المترو المخصصة للسيدات، وتحديدا الساعة الثالثة عصرا، تُمتهن الكرامة الإنسانية بكل الأشكال والصور، ويتحول جيش من الموظفات في لحظة إلى قطيع لا يفكر سوى في العودة إلى المنزل بأسرع الطرق، حتى لو تم ذلك بالتدافع الوحشي أو الدهس المميت، الكل يريد أن يستقل العربة في نفس اللحظة، رغم أن المسكينة لا تستطيع أن تسع بين جنباتها سوى ربع العدد المنتظر بشوق على رصيف المحطة، في البداية لم أكن أتعاطف أبدا مع أي سيدة تصر على أن تدخل إلى العربة بإتباع نظام الحشر؛ لكن باستراق السمع في إحدى المرات إلى إحداهن، والتي فاتها ميعاد عودة صغيرتها من الحضانة، والشعور بما تعانيه من قلق ولهفة، أدركت أن وراء كل منهن حكاية، تدفعها إلى التخلي عن أنوثتها –المنسية من الأساس- في سباق الحياة الذى لايسمح لهن بالوقوف لحظات لالتقاط الأنفاس؛ ولكن ماذا إذا قرّرت اليوم، ومن قلب العربة المكتظة، أن أطلق صيحات التهنئة لهن بمناسبة اليوم العالمي للمرأة؟ أتخيل أنني سأواجه المصير نفسه الذي واجهه محمد هنيدي فى فيلم (جاءنا البيان التالي) حينما قرر أن يصور تقرير العام الجديد مع البؤساء، والغارقين في مياة الصرف الصحي.
والحقيقة فإن عربات المترو في ساعات الذروة ليست المكان الوحيد الذى تلقى فيه المرأة العاملة يوميا صنوف العذاب والشقاء، فالشارع أيضا مهما كان اتساعه، يضيق عليها بما رحب، بداية من الأيادى العابثة، والألفاظ الوقحة، ووصولا إلى (ماتقعدوا فى بيوتكوا بقى قرفتونا) وفي النهاية، فلا منجى من كل هذا العبث سوى الاستماع إلى الأغنيات عبر سماعة الهاتف التي أصبحت غالبية الفتيات تدسها في أذنيها منذ بداية الرحلة وحتى نهايتها.
وفي مشهد بانورامي -لا يغيب عن ذهني أبدا- حيث كنت أسير فى شارع القصر العينى المزدحم، بسرعة تساوي تماما سرعة السيارات المارة بجانبي، لم أسمع كلمات (المعاكسة) التي انطلقت من فم الرجل الجالس في المقعد المجاور للسائق في إحدى السيارات، حيث كانت نجاة تشدو جزء من أغنيتها الرائعة ( عاليادي) وبينما كانت تقر صاحبة الصوت الملائكي أنه (لا العاشق مرتاح ولا الخالي مرتاح) إذ بالسيارة تسبقنى بضع خطوات، لأكتشف أنها سيارة (تحت الطلب)، فيجتمع في عيني صورة الرجل الذي تتدلى رأسه من نافذة السيارة ليكمل ما تيسر له من تحرش، بالغمز، والعض على الشفاه، مع صورة الآية القرآنية المكتوبة بخط واضح وكبير على جانب السيارة (كل نفس ذائقة الموت) في مشهد كاشف عن ما وصل إليه الحال من تبلد واعتياد، لذلك فلا يسعنى وأنا أقرأ أخبار الندوات، والمؤتمرات، والاحتفاليات، التي ستقام بمناسبة اليوم العالمي للمرأة، إلا وأن أتذكر المقولة الرائعة للفنانة كريمة مختار من فيلم (الفرح) حينما كانت تحاول أن تثني ابنها زينهم -الذى قام بدوره الفنان خالد الصاوى- عن جلب راقصات فى الفرح الوهمي، حيث قالت (ده إحنا بنتشعبط في رضا ربنا)، والحقيقة أن نساء مصر، على اختلاف مستوياتهن (بيتشعبطوا فى رضا ربنا).
.