أأنت مثلي ممن تستفزهم أخبار مُشعلي المواقع بصورهم وإطلالاتهم علينا، على غرار: الابن الفاتن لفلانة المغنية، وابن فلان الممثل الوسيم مع ابنة أخيه الممثل الوسيم أيضاً، والابنة الجميلة لممثل آخر والتي -سبحان الله والحمد لله- لم تطلع شبه والدها؟ إن كنتَ كذلك، فاعتبر أن هذه التدوينة مهداة إلى روحك التي تكاد تطلع كلما قرأت مثل هذه الأخبار. لن تنزل هذه التدوينة إلى ذلك الدرك الأسفل من السخافة بأن تتكلم عن أخبار مُسترخَصة من تلك العينة فارغة المحتوى، إنما ستحاول الارتقاء بمستوى الكلام قليلاً بأن تتناول ظاهرة صناعة خبر من لا شىء. وعندما أقول “لا شيء” فإننى أعني: لا شيء واقعى! هذا لأن تعاملنا اليومى المتزايد مع الوسائط ‒التى تسمى التواصل الاجتماعى‒ قد أوجد الافتراضى جنباً إلى جنب مع الواقعى، بل إن ثمة مصطلحاً يجمع بينهما؛ إذ صار لدينا ’واقع افتراضى‘ خلاف الواقع الواقعى أو الحقيقى أو أياً يكون وصفه. والحال أن هذا التقابل بين نوعين من الواقع ليس جديداً، بل هو قديم قِدَم وعى الإنسان بنفسه وبالعالم. هذا الوعى ‒الذى قد نصفه بأنه وعى ثقافى‒ يعود إلى تاريخ اكتشاف الإنسان البدائى قدرته على توظيف النار: أن يُشعِل..
النـار
من دون اكتشاف الإنسان البدائى لطريقة إشعال النار لم يكن ممكناً أن يدخل هذا المجاز على اللغة ليستخدمه الإعلام على هذا النحو المسىء للحس البلاغى والذى آلت إليه على آخر الزمن. لكن الأمر لا يقف عند حد المجاز اللغوى، فعندما يستخدم الشخص فى لغته النار وتمثلاتها، فإن شاعرية هذا المجاز عند المستمع لا تنبع من الأحاسيس الشخصية له، بل مما يستدعيه من دلالات وإيحاءات لا واعية عنده، أو كما يقول غاستون باشلار فى ’التحليل النفسى للنار‘: «المجازات تستدعى وتتماثل أكثر من الأحاسيس إلى حدِّ أن فكرًا شاعريًا هو ‒ببساطة وبلا قيد‒ تركيبٌ للمجازات.» هذا يعنى أننى عندما أقول: «الجو نار!» لستُ فقط أعبّر بصورة بلاغية، وإنما أُهيل طبقات فوق طبقات من الإيحاءات والتداعيات الرمزية الدينية والثقافية والنفسية عبر أُذن المستمع الواصلة إلى عقله الباطن. فمن ساعة اكتشافها أصبحت النار شيئاً ملهماً ومثيراً للخيال: واحدة من العناصر الأساسية الأربعة لو أخذت بتراث الإغريق، أو الخمسة لو أخذت بتراث الصينيين، الهبة المسروقة من الآلهة، بل كانت هى نفسها الإله المعبود، ثم صارت العقاب الأبدى الذى فيه يُخلّد غير المؤمنين بالإله، ليست فقط عقاباً وإنما كذلك تطهيرٌ، فلطالما اعتقد الخيميائيون قديماً فى الخصائص الباطنية للنار. للنار إذن تراثها الحافل والمتجذر فى الإنسانية؛ هذا التراث لم ينقطع بمجرد مفارقتنا لبدائيتنا وتنقُّلنا بين العصور وصولاً إلى الحداثة، بل امتد للنار حضورها المحمّل بالرموز والإيحاءات: فهى شعلة الأولمبياد، وهى جهنم والروح القدس، ومعجزة إبراهيم أبى الأنبياء وعذاب أصحاب الأخدود، وهى نزول لعنة السماء وعلامة تقبُّلها للقربان، وهى المدفأة ونار الشواء وشاى الراكية، وهى إحراق للأجساد وللبيوت للمتهمين بالسحر فى الغرب وفى شرفهم عندنا. وهكذا نرى أن النار، خلاف العديد من المجازات الأخرى، قادرة على أن توحى بالشىء ونقيضه: بالحب المُنزَّه وبالحسّية، بالموت والقيامة، بالإيمان والكُفر، بالثواب ورضا الله أو بالعقاب والنبذ خارج الملكوت، بالحميمية والتحضر أو بتفتيشية المجتمع وبربريته، بمداواة الجسد أو بتحلله إلى رماد. فإذا كانت النار كل هذا، وإذا كنتُ قد نجحت فى جعلكم تستحضرون النار فى أذهانكم مجازاً متعدداً ومعقداً، قولوا لى ما انطباعاتكم -بعد كل ما سبق- عندما تأتيكم أخبار مثل هذه: ضابطة كويتية تُشعل مواقع التواصل / “سيلفى” لطيار تركى مع مقاتلات سعودية تشعل مواقع التواصل الاجتماعى / هيفاء تُشعل إنستجرام بفستانها الجلد / شعر شقيقة ميريام فارس يٌشعل إنستجرام؟ قد ترون أن بعض هذه الأخبار تلعب على المجاز الحسِّى لفعل الإشعال ‒فالنار عنصر جنسى بامتياز‒ وأن بعضها يلعب على المجاز الاجتماعى؛ فلطالما كانت النار محوراً للأنشطة الجماعية الليلية كقعدات السمر، أو غير المرتبطة بوقت معين من اليوم عندما يحمل أهل القرية مشاعلهم ويتجهون غاضبين إلى البيت المنبوذ فيها بغية إحراقه على من فيه أو على الأقل إخراجهم من قريتهم الطاهرة (وهو مشهد أثير فى السينما المصرية، لعل آخر نسخة منه هى التى جاءت فى فيلم طير إنت) وبالطبع هناك المجاز التلقائى للنار؛ وهو الحريق نفسه. فالحريق شرٌّ لا يقع فقط فى العالم الواقعى، لكنه يحدث أيضاً للعالم الافتراضى. ومثلما فى الواقع تُستخدم حوائط لحماية المبانى من الحريق Firewalls، تحتاج المواقع الافتراضية مثلها أيضاً إلى حائط يحميها من النار..
الحـائط
فى مشهد أثير عندى -مع أنه عابر- من فيلم The Social Network بين إدواردو سِڤرين ومارك زُكربرج؛ الصديقان والشريكان فى إطلاق الفيسبوك ‒الذى كان وقتها مشروعاً صاعداً‒ حيث يصل الأول من السفر مرهقاً وخائب الرجاء فى شريكه الذى كان يفترض به أن يستقبله من السفر، فيجده يستيقظ لتوه من نومة راحت عليه. وبدلاً من جملة اعتذار قد نكون متوقعين لها ‒نحن المشاهدين‒ إذا بزُكربرج يقفز باتجاه كمبيوتر موضوع بركن المكان حيث نرى أحد مساعديه منهمكاً فى العمل عليه ويهتف به: «أَرِه الحائط!» ثم يلتفت لصديقه سِڤرين ويقول: «هكذا أسميه: ’الحائط‘ وحسب.» إنه يتكلم عن الـ Wall؛ العنصر الذى بات أساسياً فى فيسبوك كما نعرفه كلنا اليوم. وهكذا مجازٌ آخر جُلِبَ من الواقعية إلى الافتراضية! ومثلما أن مجاز النار مجازٌ جامعٌ لمتناقضات، كذلك هو مجاز الحائط الذى يُستخدم فى العالم الافتراضى للإشارة إلى تقنيات الحماية والعزل الحوسبية Firewalls، فى نفس الوقت الذى يُذكر فيه باعتباره أكثر وسائط التعبير والتواصل شعبيةً: الـ Wall! وتأتى ازدواجية مجاز الحائط من حقيقة أن له وجهين: داخلى وخارجى؛ وجه للتحويط وللحماية، ووجه للعالم الخارجى يرسل الرسالة التى تريد إعطاءها للآخرين، كما يستقبل من هؤلاء الآخرين التعابير التى يُنَفِسّون بها عن أنفسهم أو تجاهك. فالحوائط الخارجية هى النوافذ (ولا يفوتُنى هنا أن أشير إلى ’الويندوز‘ المجاز الأكبر فى عالم الكمبيوتر) وصحيفة الحائط المدرسية، وجرافيتى الشارع، والملصقات من أول الإعلانات والدعايات الانتخابية وحتى نشرات المفقودين، وهى لافتات الأطباء والمحامين والمحلات ومراكز الدروس الخصوصية والمبانى الحكومية، وأكواد البنية التحتية الملطوعة بطلاء فج وتشبه شفرة لا يفهمها إلا رجال الصيانة والمرافق، والشخبطات الجانحة والعبارات البذيئة والرسوم المراهقة لقلوب تخترقها سهام، وهى أيضاً المباول العمومية الارتجالية إذا اقتضت الحاجة. باختصار: الحوائط الخارجية هى المدينة، وعليها تتمثل كل شواهد الصراعات الدائرة والكامنة فيها بين قوى ومفاهيم وأجيال، وما ينجم عن هذه الصراعات من نتائج وهزائم وانتصارات وضحايا وفضلات إنسانية. أما الحائط الداخلى فهو البيت، ولطالما كان هذا الحائط تجسيداً للحميمية والخصوصية منذ أن عرفه الإنسان البدائى فى حائط الكهف أول ما تعلَّم سُكنَى الكهوف، واتخذ منه ‒الحائط‒ وسيطاً يرسم عليه رسومه البدائية. فلربما كان حائط زُكربرج -ذلك الذى قفز بحماس قفزة إنسان كهف يرقص رقصة احتفالية، وهو يبشّر صديقه بالميلاد الافتراضى له- لربما هو إشارة رمزية إلى حائط ذلك الكهف. ومثلما كان الإنسان البدائى قبل التاريخ يستخدم حائط الكهف سجلاً مصوراً لمشاهد من حياته كالصيد والاحتفال أو رؤيته الخاصة لأحداث كونية كبرى، كذلك إنسان السوشيال ميديا الحديث يستخدم حائط الفيسبوك اليوم لمشاركة دائرة معارفه صوره ويومياته وآراءه التى يراها جديرة بالذكر. لكن هناك حائطاً لكهف آخر أعمق قد يكون حائط الفيسبوك استدعاءً له؛ وأعنى الكهف الذى عنه وضع أفلاطون أمثولته الفلسفية..
الكهف
تخيّل أشخاصاً طول حياتهم وهُمْ فى كهف، قاعدين فى وسطه نفس القعدة منذ أن وُلِدوا، وقد قُيِّدوا بحيث لا يستطيعون الحركة من مكانهم أو الالتفات لأى اتجاه خلاف الاتجاه الموجَّهين إليه. من ورائهم توجد نار، وبينهم وبين النار يقوم جدار فاصل قصير ارتفاعه بقامة إنسان يسندون إليه ظهورهم. خلف الجدار الفاصل يتوارى أشخاص آخرون ليسوا إلا مُحرِّكِى عرائس، يستخدمون الجدار الفاصل ستاراً يقفون خلفه بينما يحركون عرائسهم من فوقه، فتُسقِط النار ‒الموجودة فى خلفية كل شىء‒ ظل العرائس على حائط الكهف المواجه للأشخاص المقيدين، الذين لا يقدرون على فعلٍ إلا على هذه القعدة وعلى هذه الفرجة. من خلفهم يؤدى محركو العرائس عروضاً مسرحية كاملة تُسقَط أمامهم، مصحوبة بالأصوات وبكل المؤثرات اللازمة لإيهام أهل الكهف هؤلاء بأن ما يرونه ‒ولم يروا غيره فى حياتهم‒ حقيقى؛ ليس فقط حقيقى.. بل هو الحقيقة وما من حقيقة غيره!
هذا جزء من أمثولة (وليس كلها) من أشهر مقولات أفلاطون، كان قد أوردها فى كتابه: الجمهورية. وقد صاغها الفيلسوف الإغريقى ‒كمعظم آرائه‒ على شكل محاورة بين أستاذه سقراط وشخص آخر (هو فى هذه المحاورة جلوكون أخو أفلاطون) وهى تتدرّج فى مراحلها بحيث تقدم صورة رمزية متصاعدة للطريقة التى يكوِّن بها الإنسان مفهومه عما هو واقعى أو حقيقى، وعن مدى المفارقة بين هذا المفهوم وبين الواقع أو الحقيقى فعلاً. وتُعتبَر أمثولة الكهف إغراءً لفلاسفة الحداثة وما بعدها ليعقدوا المقارنة بين تأثير الوهم كما وصفه فيها أفلاطون وبين تأثيرات الوهم المتولد عن التليفزيون والميديا. بل إن مقارنة بسيطة للترتيبات المكانية فى أمثولته بترتيبات الجلوس وآداب الفرجة وجو الإعتام داخل أى دار سينما حيث يُسقط الفيلم من خلف الجمهور الملتزم بمقاعده وبحدود حركاته ولفتاته، تكفى ليُستَدعى من جديد حائط الكهف فى مقابل شاشة السينما المُسقَط عليها.
عمّا كانت هذه التدوينة؟
هذه تدوينة عن اللاشىء كما قلتُ فى الأول: اللاشىء أو اللاخبر. اللاشىء المتمثل فى أن الخبر يصبح محور نفسه، فيعاد تدويره فى أخبار أخرى لا تضيف إلى العالم حقائق أو تكشفها: أفتح صفحتى الشخصية لأجد خبراً ما يعجبنى أو أراه مهماً أو دالاً فأعيد نشره على صفحتى. ثانى يوم، أفتح ليطالعنى خبر جديد عن أن الخبر الذى كنتُ قد أعدت نشره أمس قد “أشعل” مواقع التواصل الاجتماعى. وها أنا اليوم ‒كما فعلت أمس‒ أعيد نشر هذا الخبر الذى عن أن آخرين (كثيرين!) قد فعلوا مثلى أمس، وأنا أفعله على أنه خبر جديد! الأدهى من ذلك، هو أننى أفعل ذلك مع أننا جميعاً نتابع نفس المواقع تقريباً، والخبر منشور على صفحات أولئك الذين سيرون إعادة نشرى له كما سأرى أنا إعادة نشرهم له! إن لم يكن هذا هو المعنى الحقيقى للتعبير القائل بأننى شخص يشتغل نفسه، فأنا لا أعرف حقاً معنى اشتغالة النفس! فنحن ندور كلنا فى دوائر مغلقة حول اللاشىء الافتراضى الذى صنعناه ونصنعه ونعيد إنتاجه. فبدلاً من أن تصبح مواقع التواصل الاجتماعى وسائط للتواصل الإنسانى الحقيقى والدافئ مثلما قد تكون عليه جلسات السمر الليلية حول النار التى تشتعل بالفعل، أصبحت مجرد طريقة لتدوير اللاشىء مرة بعد مرة. قد توحى لنا مثل هذه اللا-أخبار بمحتوى إحصائى ما نريد تصديق أننا جزء منه أو أنه موجود فى الواقع، أو توهم بقوة ردود الأفعال لحدثٍ ما أو بحجم الاتفاق أو الاختلاف حول رأى ما، غير أن ما يحدث فى الحقيقة ‒أو كما أراه وَلْنُنَحِّ كلمة “الحقيقة” هذه جانباً الآن‒ هو مزيد من الدمج الذى هو سمة العصر:
فنحن فى عصر الدمج بين التليفزيون والإنترنت والهاتف والكمبيوتر والساعة والكاميرا ومشغل الأغانى والكشّاف الضوئى؛ كل هذا فى يدك أو حول معصمك. أمثولة الكهف أيضاً اتبعت موضة الكل فى واحد: فكل فراغ الكهف وترتيبات الجلوس والمشاهدة اختُزِلت فى الفراغ الصغير الحاضن لك وللشاشة المُحتضَنة بكفك والتى عليها تقرأ هذه التدوينة الآن. النار والحائط والظلال والقيود ويدك اندمجوا فى جهاز واحد محمول، وهكذا يروح الحائط يتحرك مع حركة رأسك أينما توجهه بدلاً من أن يكون ثابتاً ورأسك مقيداً. والجمهور الخاضع للوهم ومحركو العرائس اندمجا أيضاً فى شخص واحد يشتغل نفسه. الشىء الوحيد الذى انقسم هو الكهف، الذى صار متعدداً بعدد الحضور الأُنلاين على الشبكة الافتراضية فى نفس اللحظة.
وبعد كل هذا، فما أنا متأكد منه هو أن لا أحد سيعلّق على هذه التدوينة أبداً بعبارة على غرار: جابر العثرات يُشعل مواقع التواصل الاجتماعى بتدوينة له عن أشياء لا يجد من يقرأها أى صلة بينها وبين بعض!