نقلاً عن مجلة “7 أيام”
اللغة هي الوسيلة التي لا يتحقق بدونها أي تواصل أو تفاهم بين الناس وبعضهم البعض، والمقصود بها ليس فقط اللغات الحية بين الشعوب، مثل العربية والإنجليزية وغيرها، وإنما حتى المفردات واللهجات داخل اللغة الواحدة، على سبيل المثال فإن إصرار رجل من مواليد الثلاثينات على أن يتكلم بلغته مع شاب مولود بعد سنة 2000 ينتج كوميديا ومواقف عبثية لا تفاهم وتلاقي في الأفكار والقضايا، يمكن من خلال نفس النقطة أن نفسر لماذا تفشل محاولات بعض الفنانين الكبار في العودة من جديد حيث لا يتابعهم سوى جمهور كان شابا وقت تألقهم ولازال يشعر بالولاء لنجومه القدامى، أما من دون الثلاثين فلديهم نجوم جدد يتكلمون بلغة هذه الأيام.
قد تبدو المقدمة طويلة وبعيدة عن عنوان المقال وهو قاموس وزارة الداخلية، لكن الأمر الواقع في مصر الآن يؤكد أن هذه الوزارة كما باقي وزارات الحكومة ومؤسسات الدولة لاتزال تعاني من سطوة اللغة القديمة والقاموس الذي عفا عليه الزمن، وحتى عندما أجبرت ثورة يناير الداخلية على تأسيس صفحات لها على فيس بوك منها الرسمي ومنها غير ذلك فإن اللغة لم تتغير رغم حداثة الوسيلة.
إذا كنا قد فقدنا شابا بريئا في جريمة الدرب الأحمر ذهب ضحية تاجر كاوتش متخفى في وظيفة رقيب -أو أمين شرطة- لا فرق، فإن مكتسبات هذه القضية فيما يتعلق بانهيار القاموس القديم لوزارة الداخلية أمر لا يمكن اغفاله، بعد هذه الواقعة لن يجرؤ أي من المتحدثين باسم الوزارة على ترديد تعبير “حادث فردي” مجددا وإن فعلها فسيكون كمن يكلم نفسه، خصوصا بعدما طلب الرئيس السيسي على عجل اصدار تشريعات من أجل ضبط أداء ضباط وأمناء الشرطة وكبح التجاوزات في حق الشعب، والمعروف أن التشريعات لا تصدر أبدا للحالات الفردية.
بعد هذه الواقعة أتمنى أن لا يتسرع مصدر أمني مسئول في واقعة جديدة ويخرج ليقول أن رجل الشرطة القاتل كان يفض مشاجرة، حيث لم تمض ساعة واحدة وقد اتضح أنه كان في مهمة تجارية وقتل السائق البرئ مع سبق الإصرار والترصد، لا يعني هذا أن يخرج المصدر الأمني المسئول ليصرح بأن رجل الشرطة جاني من اللحظة الأولى وإنما ليطلب بعضا من الوقت قبل أن يمنح الصحافة التصريح الأول حتى لا يحدث تضارب يؤذي أكثر مما يفيد.
بعد هذه الواقعة يجب على من يحترم وزارة الداخلية وشهدائها الفصل تماما بين تضحيات رجالها الأبطال وجرائم رجالها الأنذال، فالعبث يتجلى عندما تكون غاضبا من جريمة رقيب الشرطة في حق سائق الدرب الأحمر، ويخرج لك من يذكرك بتضحيات شهدائها ضد الإرهاب، وهو كلام من المفترض أن يوجه للرقيب القاتل قبل الشعب الغاضب، فهذا الرقيب وأمثاله لم تهتز لهم شعرة أمام سقوط زملائه ضباطا وأفرادا ضحايا للهجمات الإرهابية، لم يقرر غلق متجره والانتقال من شرطة النقل والمواصلات للقوات الخاصة، أو على الأقل يتعهد بينه وبين نفسه على معاملة الناس بخلق حسن حتى يترحموا على زملائه الشهداء ولا يذكرون للداخلية سوى موبقات بعض رجالها.
بعد واقعة الدرب الأحمر لم يعد مقبولا استخدام الخبراء الاستراتيجيين تعبيرات مثل “مخطط استخباراتي أجنبي في باب الخلق”، فحتى هذا التصريح لم يحظى بالقدر المعتاد من السخرية هذه المرة لأن الوجع على ما جرى كان أكبر من التعامل بجدية أو حتى بسخرية مع هذه التصريحات التي راح زمانها ولم تعد تقنع حتى أصغر الأطفال.
بعد ثورة يناير اكتفت وزارة الداخلية بتغيير اللافتة من “الشعب والشرطة في خدمة الوطن” إلى “الشرطة في خدمة الشعب” فكانت كمن يكتب اسمه بالانجليزية على “يونيفورم” العمل وهو لا يتقن إلا العربية، بدون الاستغناء عن القاموس الذي عفى عليه الزمن لن تعود لغة التفاهم من جديد بين الداخلية والشعب، وستظل الشرطة كما السائح الأجنبي في فيلم “زكي شان” يتكلم بلغة غير مفهومة فيما يصر أحمد حلمي على أنه “مش من شرم”.
.